عندما جربت السفر الى الخارج بعد التخرج – عام 1990 – تعثر تصريح السفر ، و قيل لي إن علي أن آخذه من جهاز أمن الدولة. هناك كارثة ما.
المخبر الذي يجلس في مكتب الاستقبال كالح الوجه ، يتعامل مع الناس بوقاحة مستفزة من شخص جلف يعرف أنك عاجز عن أن تضره. يسخر من لقب كل شخص (أحمد حسنين ؟ هع هع . مش كفايه حسن واحد ؟… علي الأطرش ؟ هو لسه أطرش ؟ هع هع) ، و يستهزئ بالجميع شاعرًا بأهمية مركزه ، و معظم ما يقوم به من عمل هو جعل الناس ينتظرون على أحر من الجمر ، ثم بعد ثلاث ساعات يخبرهم أن (#فلان_بيه) لم يأت اليوم ، وأن عليهم العودة بعد ثلاثة أيام ، ثم يبدي قرفه و اشمئزازه من توسلات الناس له لأن موعد السفر اقترب .. أو .. أو .. لا أعرف إن كانوا يتبدلون في #النوبتجية ، لكن حظي العاثر كان يوقعني دومًا مع هذا الوغد.
أجلس في غيظ – لرابع يوم – أصغي لهرائه والقصص السخيفة التي يحكيها لأحد معارفه :
ـ”العقيد (فلان بيه) يثق بي تمامًا .. لا يخرج لأي مأمورية من دون أن يقول لي : تعال معي يا إبراهيم بيه فأنا بحاجة لك !!!”
أتماسك حتى لا أنفجر ضحكًا. أحداث رائعة يوسف إدريس (#جمهورية_فرحات) لا تفارق ذهني.
سخريات الحياة أن يصير هذا الجلف متحكمًا في مستقبلك ومصيرك ، و هو بالفعل قادر على ألا تقابل #الضابط_المسؤول للأبد. في النهاية عندما قابلت الضابط نفسه – الشهادة لله – كان في غاية التهذيب و الأدب ، وقال لي و هو يناولني لفافة تبغ و يشعلها :
ـ”ملفك يتحدث عن #نشاط_شيوعي أيام الكلية يا دكتور ، لهذا حدث هذا الخلط.. لا تقلق . سأنهي المشكلة حالًا”
كما قلت لك: #لستناشطًا كما إنني لست شيوعيًا ، لكن هذا ليس موضوعنا على كل حال. مرة أخرى بعد أعوام تكرر الموقف ذاته ، و جئت لأمن الدولة لأجد مخبرًا غير خصمي القديم ، لكنه هو نفسه بطباعه وغروره و قلة أدبه. بعد ما تكرر #الكعبالدائر مرتين، خرجت لكابينة هاتف واتصلت بصديق حميم له قريب ذو منصب مهم في جهاز أمن الدولة. عدت لمكتب الاستقبال لأسمع #سخرية_المخبر السخيفة وكلامه التافه. عندما دق جرس الهاتف ، رفع السماعة و بدت معالم البلاهة و الغباوة على وجهه:
ـ”نعم يا باشا .. هو أمامي الآن .. ماذا ؟ أوصله بنفسي لمكتبك ؟ أمرك”
وسرعان ما راح #يركض_كالأرنب و أنا وراءه عبر أروقة الجهاز الكئيبة ، ليوصلني للضابط الكبير الذي أنهى المشكلة في نصف دقيقة وهو يبتسم. وعندما خرجت من الباب للشارع نهض المخبر محييًا في توقير كأنني صرت باشا آخر.
عندما يتملك السلطة شخص #جاهل_غبي لم تهذبه الثقافة ولم يعلمه الدين شيئًا، فإنه يصير من زبانية جهنم ، و تصير رسالته في الحياة هي أن يحيل حياة البسطاء الذين لا خطر منهم جحيمًا.
هناك كذلك (عقدة ممرض الطبيب الناجح) التي يعرفها الأطباء جيدًا.
هناك دومًا #الطبيبالناجح الذي يتزاحم المرضى على عيادته. هؤلاء – كي يقابلوا آمون – يجب أن يظهروا الخضوع والتبتل للكاهن الأعظم. وهذا الكاهن الأعظم يجلس إلى مكتب (#إيديال) صغير شاعرًا بتضخم أهميته ، يرنو لهم بتنطع وغرور يتناسبان مع جهله. مع الوقت يوقن أنه مهم جدًا .. إن الناس تتزاحم أمامه طالبة رضاه .. البعض ينتحون به جانبًا ، والبعض يبرزون له بطاقات تدل على أنهم #مهمونمثله. إنه يملك لهم كل شيء.. يملك أن يسمح لهم بمقابلة آمون داخل المحراب ، أو يمنعهم من ذلك فهو إذن الهلاك الأبدي لأرواحهم..
مع الوقت يشعر بأنه أهم من الطبيب بكثير.. #يتصرف_بغرور فج لا يختلف عن غرور مخبر أمن الدولة الذي حكيت عنه. وأعتقد أنه يتحول إلى وحش يسيطر عليه الطبيب بصعوبة.
منذ أعوام زرت طبيب أمراض جلدية شهيرًا في مدينتي، فأعطاني الممرض الرقم 71 في الحجز اليومي !.. وهو يحدد لك الموعد بالدقيقة.. 8:10 مساء مثلًا .. السبب هو منع الازدحام الذي يثير شهوات #مفتشيالضرائب ، لو تأخرت خمس دقائق لضاع دورك. ثم عرفت أنه يتقاضى سبعة جنيهات عن كل كشف. لو افترضنا أن الطبيب يفحص مئة مريض يوميًا – والكل يؤكد أن هذا ممكن لأن الرجل يقضي مع كل حالة ثلاث دقائق – فإن الممرض يحصل على 700 جنيه يوميًا تقريبًا ، أي أننا نتكلم هنا عن 18 ألف جنيه شهريًا على الأقل ، مقابل (لسه قدامك اتنين يا حاج .. #اتفضلييا مدام عزة .. الحجز بالتليفون يا كابتن).. هذه وظيفة تغريني أنا نفسي ، فلا غرابة في أن يفقد الممرض أي سيطرة له على نفسه ..
القاعدة واحدة وسارية في كل مكان. هات #شخصًا_جاهلاً غبيًا من أصل منحط – و لا أعني الثراء أو الفقر طبعًا – و أعطه سلطة ، حتى لو كانت حراسة باب مبولة عمومية ، و لسوف تطلق أقذر مكونات نفسه للخارج. إنه يصير الشيطان ذاته.
ينطبق هذا على الجميع . ينطبق على مخبر يحرس بوابة أو #تومرجيفيعيادة .. ينطبق على مسؤول كبير أو أستاذ جامعي .. ينطبق على ضابط شرطة صار (باشا) يهابه الجميع .. ينطبق على مذيع يحتل ساعات مهمة في الفضائيات ولا يصدق أنه صار بهذه الأهمية ..
على الجانب الآخر تكتشف أن ذوي الأصول الكريمة – مهما كان فقر جذورهم – يزدادون رفقًا ونبلاً كلما ترقوا في سلم الحياة. وتجدهم يحرصون على أن يقوا من هم أصغر منهم #أشواك_الرحلة و غبارها. المؤسف أن فرصة السيطرة والنفوذ قلما تتاح لهؤلاء. الأحجار الكريمة نادرة في هذا العالم ، لذا هي ثمينة عالية القيمة.
د أحمد خالد توفيق
…