كتب جاكسون ديهل في صحيفة «واشنطن بوست» معلقاً على مرور 100 عام على اتفاقية سايكس- بيكو التي تذكرها العالم العربي يوم الاثنين.
وقال إن المناسبة كانت وراء حالة من «الحمى» التي شهدتها مراكز الأبحاث «ثنك تانكس» في واشنطن التي نظمت مؤتمرات وبدا من المقالات التي نشرت في الصحف والمجلات. ففي 15 أيار/مايو 1916 اتفق كل من مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو، وزيري الخارجية البريطاني والفرنسي على خطة سرية لتقسيم الدولة العثمانية التي كانت في طريقها للإنهيار.
وظهرت نتيجة للعبة الإمبريالية دول هي لبنان وسوريا والعراق والأردن. ويقول ديهل إن المئوية الأولى للإتفاق تحولت مناسبة للنقاش حول ما يجب عمله أو ما كان يجب عمله بعد هزيمة تنظيم «الدولة» الذي أصبحت هذه الإتفاقية جزءاً مهماً في خطابه الإسلامي.
وبدا من خلال إلغاء الحدود بين سوريا والعراق. فهل يجب علينا الحفاظ على الوضع الذي كان قائماً قبل اجتياح التنظيم للبلدين والعودة لنظام الحكم المركزي في دمشق وبغداد والذي حكمت من خلاله التنوعات العرقية والإثنية ـ سنة وشيعة وأكراداً وعلويين وبقية الأقليات والتي تخوض حروباً ضد بعضها البعض ومنذ قرون طويلة.
وماذا عن لبنان التي لم يقدم نظام المحاصصة الطائفية فيه إلا جموداً سياسياً دائماً. وليس غريباً أن يختلف الناس في إجاباتهم على هذين السؤالين.
فهناك من يرى ضرورة الحفاظ على كل من سوريا والعراق كدولتين قطريتين بسبب خصوصيتهما ولكونهما في حالة تنافس منذ أزمان طويلة وقبل سايكس – بيكو. كما أن سكان البلدين طوروا هويات وطنية تجاوزت الهوية الإثنية والطائفية وعليه فستؤدي إعادة رسم الحدود لخلق مشاكل جديدة أكثر من حل المشاكل القائمة.
وكما كتب مايكل روبن، من معهد أمريكان إنتربرايز «لا يوجد أي مجال لتقسيم الحدود وخلق دول متجانسة» و «حتى المحاولة فإنك ستقوم بعملية تطهير عرقي وطائفي».
لا عودة للوراء
وهناك مدرسة أخرى ترى استحالة ترميم الدولتين وجمع شتاتهما من جديد. فقادة كردستان العراق على ما يبدو مصممون على الدفع نحو الإستقلال رغم اختلافهم حول الطريقة التي يجب أن تنجز بها دولتهم- سريعاً أم بطيئاً.
وأشار للمقال الذي كتبه مسرور بارزاني، مسؤول مجلس الأمن الكردستاني في الصحيفة نفسها الأسبوع الماضي حيث قال إن «العراق هو مفهوم فاشل. يقوم على إجبار أناس لا شيء يربطهم المشاركة في مستقبل مجهول».
لا تدخل غربي
ويرى عدد من القادة والمفكرين العرب أن على الغرب أن لا يتدخل في النقاش. فقد أحدث سايكس- بيكو وأحفادهم الإمبرياليون حتى جورج دبليو بوش ما يكفي من الضرر.
وهناك من يرى أن تحقيق الإستقرار في المنطقة لن يتم بدون تدخل خارجي. وهذا الفريق لا يتحدث عن غزو غربي جديد ولكن عن «رعاية» تشرف عليها الأمم المتحدة كما فعلت في يوغسلافيا بعد الحرب.
ويشير ديهل لما كتبه بهاء الدين حسن، الناشط في مجال حقوق الإنسان حيث قال إن «الحلول التقليدية لمشاكل المنطقة لن تنفع» خاصة أن «هناك بعض الدول التي لا تستحق أن تكون دولاً تحكمها شعوبها».
وبناء على هذا يقرأ الكاتب موقف إدارة الرئيس باراك أوباما التي تبنت استراتيجية «الإبتعاد» عن المنطقة.
وتقوم هذه على «تعريف مصالحنا بشكل ضيق ومحاولة تحقيقها بطريقة قوية» بحسب بريت ماكغيرك، مبعوث أوباما للتحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة».
ففي العراق استثمرت الإدراة بشكل ضخم لحماية الحكومة المركزية ورئيس وزرائها الضعيف حيدر العبادي. وتأمل واشنطن هزيمة تنظيم «الدولة» واستعادة الموصل من خلال تقديم دعم سياسي كاف للعبادي وإعادة بناء الجيش العراقي.
وفي سوريا يقوم وزير الخارجية جون كيري بالبحث عما يسميه الكاتب هنا «سراب» حكومة انتقالية تجمع ما بين النظام الإبادي لبشار الأسد ومعارضيه.
ويعتقد ديهل أن الدبلوماسية ما هي إلا ورقة تين لتبرير عدم تقديم الدعم من أجل الإطاحة بالأسد في الوقت الذي تقوم فيه واشنطن بتجميع قوى كردية وعربية للزحف نحو مدينة الرقة عاصمة ما يطلق عليها «الخلافة».
ويرى الكاتب أن هذا المدخل الذي يقدم الحد الأدنى من الدعم يظل عاملاً معوقاً لظهور إجماع حقيقي حول مستقبل البلدين.
ورغم تخطيط الولايات المتحدة لحملة تطمح لتدمير تنظيم «الدولة» في العام المقبل واستعادة الموصل والرقة لكنها لم تخطط لما بعد التنظيم.
وقد يدفع هذا بعض المشاركين مثل الأكراد إلى التردد في المضي قدماً. وفي خارج الإدارة هناك الكثير من الأشخاص يشككون في إمكانية بقاء العراق وسوريا ككيانين موحدين في مرحلة ما بعد الحرب.
وقد يتحول البلدان إلى مجموعة من الفدراليات المشتتة على شاكلة ما حدث للبوسنة والهرسك بعد الحروب اليوغسلافية. وهذا يعني أن خطة بديلة عن سايكس- بيكو يجب أن تنتظر للعام المقبل والرئيس الذي سيحل محل الحالي.
لم تتغير الحدود
ورغم الحديث عن انهيار الحدود خاصة في دعاية تنظيم «الدولة» «نهاية سايكس- بيكو» كما أظهر فيديو نشره في حزيران/يونيو 2014 إلا ان النظام الحالي في سوريا والمعارضة على حد سواء يدافعان عن وحدة سوريا بدلاً من تقسيمها إلى دويلات تعكس الإثنيات والطوائف التي تعيش فيها.
وفي الدول التي شهدت حروباً أهلية مثل اليمن وليبيا لم تتغير الحدود. ورغم تمزق العراق إلا أنه لا يزال يحافظ على وحدته وإن بشكل هش ونظري فيما يتمتع الإقليم الكردي في الشمال بنوع من الحكم الذاتي.
وينقل نيكولاس بلانفورد من «كريستيان ساينس مونيتور» عن فرد هوف، مدير مركز رفيق الحريري في المجلس الأطلسي قوله إن «ما تعلمناه من خطط الإمبريالية في أفريقيا هو أن «الدولة المصطنعة» تظل حاضرة على الخريطة وحتى في بعض الحالات التي تحدث في داخل حدود الدولة الواحدة مجازر إبادة، وأرى أن هذا ينسحب على الولايات العثمانية في المشرق وبلاد الرافدين».
ويعود استمرار الدول كما هي إلى أن الحدود التي يتم الإتفاق عليها عبر اتفاقيات تظل كما هي. كما أن التلاعب بالحدود الدولية لا يمكن لطرف واحد تغييره بل يحتاج للدولة والجارة الأخرى على الجانب الآخر من الحدود والذي قد يكون عملاً معقداً.
وكتب ستيفن سايمون، الزميل الباحث في معهد الشرق الاوسط في آب/أغسطس 2014 في مجلة «فورين أفيرز» قائلاً إن «إثارة التساؤلات حول الحدود يؤدي بالضرورة إلى مزاعم مضادة خاصة في منطقة تتجاوز فيها الطوائف والإثنيات الحدود وانتهت أقليات خلف حدود عندما تم الإنتهاء من رسم الخرائط».
ورغم أن الحدود التي خطها سايكس –بيكو اخذت وقتاً طويلاً كي تتشكل فالعراق لم يقبل بحدوده مع الكويت إلا بعد عام 1991 اي بعد الإجتياح لها في عهد صدام حسين عام 1990.
وبعد 60 عاماً من الإستقلال لم تتفق كل من سوريا ولبنان على حدود واضحة، وهو تعبير عن عدم رضا سوريا لقرار الفرنسيين اقتطاع لبنان من سوريا الام عام 1920.
وبالنسبة لحدود إسرائيل التي كانت نتاجا لاتفاقية سايكس- بيكو فقد تغيرت بشكل دائم نتيجة للإحتلال والإنسحاب من الأراضي العربية. ففي الشهر الماضي أعلن بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه لن يتم انسحاب من مرتفعات الجولان السورية التي احتلتها إسرائيل عام 1967. وفي معظم الحالات لا تتبع الحدود الخطوط الطبيعية، والحدود السورية- اللبنانية تعتبر استثناء فهي تتبع النهر في الشمال وسلسلة من الجبال في الشرق. ولكن الدول الغربية قامت في معظم الحالات رسم خطوط مستقيمة تمر عبر مناطق صحراوية تمتد بلا نهاية.
واحدة منها الحدود السورية الجنوبية مع الأردن وتركيا والتي تمتد على طول 260 ميلاً وعلى طول خط طويل معظمها معلمة بتلال رملية لا يتجاوز ارتفاع عن أقدام.
ديكتاتورية وعجز
ويذكر بلانفورد بالوعود التي قطعتها بريطانيا للعرب أثناء الحرب العالمية الأولى وكيف أنها حنثت بوعودها فيما بعد واتسمت السنوات فيما بين الحربين بالثورات والإنتفاضات ضد الإستعمارين الفرنسي والبريطاني.
في هذه الفترة ظهرت الأحزاب العربية القومية الداعية للتحرر من الاستعمار وتوحيد الأمة العربية. وقام القوميون بانقلابات وأطيح بملكيات.
وجعلت الثروة النفطية المنطقة في مركز النزاع الدولي بين المحورين الغربي والشرقي أو ما عرفت بالحرب الباردة. وأثر الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على استقرار المنطقة. واتسم النظام العربي في مرحلة ما بعد خروج الإستعمار بحكم الرجل القوي والذي تمثل في صدام حسين في العراق وحافظ الأسد في سوريا ومعمرالقذافي في ليبيا وقبلهم جمال عبد الناصر.
ولكن القومية العربية التي أوصلت هذه الأنظمة سرعان ما تحجرت وتحولت إلى حكم قمعي وملاحقة للمعارضة وسجن وتعذيب.
وفي الدول نفسها تحول الحكم إلى مسألة عائلية. ومن العوامل التي أسهمت في تكريس العجز والفساد والحكم الديكتاتوري أن المنطقة حتى نهاية الحكم العثماني لم يتطور فيها نظام حكم اسوة بما حدث في أوروبا فقد ظلت الإدارة تتركز في المدن من دمشق إلى بغداد وحلب والموصل بدون مركز يجمعها.
ويرى بول سالم، مدير الدراسات في معهد الشرق الأوسط أن المشكلة كانت أعمق من سايكس ـ بيكو.
وقادت عقود من القمع إلى انفجار بدأ عام 2010 في تونس ومن ثم مصر وليبيا وسوريا واليمن. ومع ذلك لا يزال السكان يرفضون فكرة التفكيك التي يرون انها مؤامرة غربية لإضعاف الأمة العربية.
حالة العراق
خذ العراق مثلاً، يقول بلانفورد إن قادته والحكومة التي يهمين عليها الشيعة يرغبون في بقاء العراق موحداً.
وتقول انتصار محمد، المتدربة في فريق الجودو الوطني العراقي «نحن محاطون بالأعداء: إسرائيل والسعودية وأمريكا». وكانت واحدة من النساء اللاتي شاركن في التظاهرات في ساحة التحرير في بغداد مع مؤيدي مقتدى الصدر. وقالت «هذه خطة قديمة لتقسيم العراق»، «وهذه ليست فكرة عراقية، وجاءت من خارج العراق». وهناك من يؤيد من السنة الذين تعرضوا للتهميش والحرمان من بغداد بعد غزو عام 2003 يرون في فكرة الحكم الذاتي إنقاذاً لهم.
وينقل عن لقاء الوردي، عضو البرلمان عن منطقة الفلوجة «يريد العراقيون البقاء في بلد موحد وليس أقاليم منفصلة إلا أن النزاع السياسي والإجتماعي في العراق جعل الناس أكثر ولاء لقبائلهم وطوائفهم» وليس العراق. وتقول «يعتقد الناس في الأنبار أن الحكومة ضدهم ويتعاملون مع منطقة سنية كطريق نجاة».
الحلم الكردي
ويشير بلانفورد إلى أن الأكراد وهم العرق الذين تركهم سايكس- بيكو خارج الترتيبات، وهم أكبر مجموعة عرقية في العالم بدون دولة، 40 مليون نسمة. ومع أن كل مجموعة كردية في سوريا والعراق وتركيا وإيران لديها تجربة مختلفة إلا أن «كردستان الكبرى» ظلت حلماً.
ومن هنا يرى الكثير من الأكراد ان التفكك في العراق وسوريا والحرب التي استؤنفت في تركيا بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني في أيلول/سبتمبر 2015 قد تقود إلى ولادة أمة جديدة بشكل تلقائي.
وينقل التقرير عن ديفيد فيليبس، الأستاذ في جامعة كولومبيا ومؤلف كتاب «الربيع الكردي: خريطة جديدة للشرق الأوسط» «يشعر الأكراد أن اللحظة لتصحيح الظلم التاريخي قريبة، وسايكس- بيكو هو تذكير بالإضطهاد الكردي طوال القرن الماضي».
ولكن هناك تغيرات دراماتيكية جارية، فبعد اجتياح تنظيم «الدولة» شمال العراق، قامت قوات البيشمركه بالتحرك وسيطرت على مدينة كركوك النفطية.
وبعد أسابيع تحدث حاكم كردستان مسعود بارزاني عن إمكانية الإستقلال. وفي شمال سوريا أقام الأكراد ثلاثة جيوب حكم ذاتي أطلقوا عليها «روجوفا».
ولكن معركة كوباني/عين العرب في تشرين الأول (اكتوبر) عام 2014 التي طرحت من جديد «اللحظة الكردية» فقد شارك أكراد سوريا- قوات حماية الشعب وأكراد العراق وتركيا في المعركة ضد مقاتلي التنظيم وساعدهم طيران التحالف الذي تقوده أمريكا على هزيمة الجهاديين وطردهم من البلدة.
ويقول فيليبس «لا أرى أن الأكراد سيبقون في العراق»، و»أعتقد أنهم سيجرون استفتاء على الإستقلال وسيمنحون انفسهم عاماً من وقت الإستفتاء للتفاوض على طلاق بالتراضي مع بغداد والتعايش مع دول الجوار مثل تركيا. وعندما يعلنون الإستقلال فستنظر إليهم بقية المجتمعات الكردية وترتبط معهم».
حذر في الأردن
وعن الأردن الذي ظل في قلب المنطقة ونجا من انتفاضات الربيع العربي، يقول بلانفورد إن الدولة تحاول منع وصول آثار الحرب في العراق وسوريا إليها. وتقوم الشرطة بوقف السيارات وتفتيشها عند نقاط التفتيش التي لا تبعد سوى 35 ميلاً عن الحدود مع العراق و15 ميلاً عن سوريا.
ومن الصعب العثور على أردني على طول الطريق السريع المؤدي لسوريا. ويتحدث أصحاب البقالات والمزارعون وعمال البناء بلهجة سورية قوية. فقد أفرغت قرى كاملة في جنوب سوريا وانتقل سكانها عبر الحدود إلى الأردن. ويشكل السوريون اليوم نسبة 20% من سكان الأردن.
ومع تدفق اللاجئين فإن الحدود القريبة منه تتعرض للتغير حيث تواجه قوات المعارضة النظام على مسافة تتراوح من 8 إلى 28 ميلاً من الحدود الأردنية بشكل دعا القوات الأردنية تحذير الطرفين من إطلاق النار عليهما إن اقتربا مسافة 4 أميال من الحدود مع الأردن. ونتيجة لهذا أصبحت الحدود الأردنية منطقة فعلية للاجئين السوريين البالغ عددهم 60.000 شخص.
فهم لا يستطيعون العودة إلى بلادهم ولا دخول الأردن خشية اختراق الجهاديين لهم. ويقول المسؤولون في القصر أن حدود الأردن لم تعد تعني شيئا خاصة أنه يتحمل مسؤولية اللاجئين القادمين من العراق وسوريا.
وينقل عن العين جواد العناني «أشك في ضم ـ الدول السنية الجارة ـ للأردن ولكن اعتمادها الاقتصادي والإغاثي جعل الأردن يلعب دوراً إدارياً».
وأخيرا لبنان
عانى لبنان حظه من النزاع وعاش حرباً أهلية استمرت 16 عاماً. وعندما انتهت عام 1990 انتهت الكانتونات الطائفية وعادت السلطة لبيروت.
ولم تتغير الحدود بينه وبين إسرائيل وسوريا. ويقوم نظام السياسة في البلد على المحاصصة الطائفية الذي يناقش البعض أنه قد يكون نموذجاً للدول التي تعاني من نزاعات طائفية. وأسهم النظام في وجه منه بولادة دولة عاجزة وأعاق التقدم وجعل كل مواطن ينظر للآخر عبر المنظور الطائفي والديني.
ولا يعرف كيف ستخرج الدول العربية من نزاعاتها وربما احتاجت لعقود كي تبني نفسها من جديد. ويرى بول سالم أن سوريا قد تتحول إلى كانتونات كمثل التي شهدها لبنان أثناء الحرب الأهلية. ومع ذلك لا يتوقع أن يتحول كل كانتون إلى دولة فعلية. وفي النهاية فالتغيير أي تغيير سيشهده الشرق الأوسط لن يمس حدود سايكس- بيكو باستثناء الأكراد ولكنه سيؤثر على طبيعة الحكم ونظامه.
القدس العربي