نشأت أجيال عربية وترعرعت وهي تسمع وتقرأ وتراقب ملف المفاوضات “الإسرائيلية – الفلسطينية” ومسار حل الدولتين الذي لم يثمر حتى اليوم بشيء يمكن البناء عليه نتيجة سياسة الكيل بمكيالين من رعاة هذه المفاوضات على مدار السنين المنصرمة, سيما وأن من يرعاها ويحتضنها هي الولايات المتحدة الأمريكية التي استطاعت إقناع الفلسطينين والعرب بشيء وهمي اسمه “حل الدولتين”, ربما لأن الفلسطينين باتوا يدركون أنهم الحلقة الأضعف, وأن النظام الدولي هو الحامي لإسرائيل والضامن لوجودها وأمنها في قلب الشرق الأوسط..
واليوم تعود الأطراف الدولية لتكرار نفس سيناريو هذه المفاوضات في سورية, ولكن مع اختلاف جوهري وهو أن النزاع في سورية ثورة شعبية قام بها أبناء الشعب السوري ضد نظام الاستبداد لنيل الحرية والكرامة, فتشابكت خيوطها بعد تدخلات عديدة ومقصودة من قبل الأطراف الدولية ذات المصالح الكبيرة, وتدولت القضية ولم تعد ضمن نظاق الصراع الداخلي السوري – السوري بين نظام حاكم ومعارضة وهذا من جهة, ومن جهة أخرى ظهر إلى الواجهة طرف جديد هو من أساس المشكلة, ولكنه اعتبر نفسه راع أساسي لملف المفاوضات وإعادة السلام إلى سورية ألا وهي روسيا الدولة الداعمة للنظام..
مسرحية المفاوضات:
نجحت روسيا في صنع مؤتمر أستانا, الذي تحول إلى مسلسل مؤلف من عدة حلقات, وقد وصلنا اليوم إلى الحلقة الرابعة من هذا المسلسل الطويل, والجديد هو فكرة روسية بإقامة مناطق “هادئة” أو ما يعرف بمناطق “تخفيف الصراع” وليست مناطق آمنة كما طرحتها الإدارة الأمريكية في وقت سابق, ولكن الطرح الروسي هو طرح “ملغوم” بعد ترك الباب مشرعاً أمام العديد من البنود غير الواضحة المعالم والصعبة التطبيق على الأرض, سيما اعتبار إيران الدولة الغازية راع وضامن لاتفاق وقف إطلاق النار.
النقطة المشتركة بين الملف الفلسطيني والسوري هو سياسة الكيل بمكيالين من قبل الأطراف الراعية, فالجدل حول إعادة إسرائيل إلى حدود 1967م لم ينته حتى اليوم مع استمرار التعنت الإسرائيلي والانحياز الأمريكي, واليوم يطالب وفد المعارضة السورية في مذكراته إلى اجتماعات أستانة, بأن تنسحب قوات النظام السوري إلى حدود 30 كانون الأول “ديسمبر” الماضي, وبمعنى آخر أن تعود قوات النظام إلى المناطق التي كانت تسيطر عليها في تاريخ بدء سريان وقف النار الذي رعته روسيا مع إيران وتركيا, والذي تمخضت عنه اجتماعات أستانة الأربعة, لأن المعارضة تدرك جيداً ألاعيب النظام وروسيا حتى لا يستفيد النظام من الهدنة لتسخيرها في قضم مناطق محررة جديدة كما حصل في الاتفاق الماضي.
لماذا اقترحت روسيا مناطق “تخفيف الصراع”:
يبدو أن القيادة الروسية أدركت المراد من نبرة الخطاب الأمريكية الأخيرة تجاه إيجاد حل للصراع في سورية بالتوازي مع ما تسميه الولايات المتحدة الأمريكية “مكافحة الإرهاب” في سورية, وفرض مناطق آمنة للمدنيين السوريين لتجنيبهم مخاطر الصراع, وقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تسخين الملف بشقيه السياسي والعسكري, وهذا ما أربك روسيا وجعلها تغير من مواقفها بصورة مفاجئة ومتناقضة, فانتقلت للدعوة إلى تخفيف الصراع وإنشاء مناطق آمنة, وهي التي كانت تقصف المشافي والبنية التجتية والمرافق العامة فيها قبل عدة أيام حتى أخرجت الطائرات الروسية سبع مستشفيات في إدلب عن الخدمة نهائياً.
ألغام على الطاولة:
روسيا ودول الإقليم المتحكمة في تفاصيل كثير من الأحداث العسكرية على الأرض هي الأطراف الراعية للاتفاق والضامنة للتنفيذ مثل تركيا وإيران, ولكن المضحك المبكي أن تعتبر إيران دولة ضامنة لوقف إطلاق النار وهي التي ترسل المليشيات الطائفية لقتال الشعب السوري منذ بداية الثورة حتى اليوم, فمن المهازل الكبيرة أن ترسل إيران قوات فصل بين المعارضة والنظام, وهي موجودة على الأرض بشكل فعلي, فيبدو الإتفاق وكأن قوات الفصل الإيرانية هي قوات حماية لخطوطها الأمامية وقنابل موقوتة في مناطق الثوار, سيما وأن إيران هي دولة مارقة ولا تحترم العهود والمواثيق الدولية..
ويبقى ملف المعتقلين السوريين في سجون النظام هو أزمة تحتاج لطاولة مفاوضات خاصة ومؤتمر منفرد بحد ذاته, فالنظام وداعموه الروس مازالوا يستخدمون ملف المعتقلين كورقة ضغط كبيرة على المعارضة لتقديم تنازلات, وقد يكون هذا الملف اليوم في استانة4 هو ملف للمقايضة وإجبار الفصائل على الاقتتال الداخلي تحت مسمى “مكافحة الإرهاب”..
تدعي روسيا رغبتها في التوصل لوقف إطلاق نار شامل في سورية, ثم الانتقال للملف السياسي والمفاوضات الحقيقية بعد تهيئة الأرضية المناسبة, إلا أنها تحاول من الناحية الأخرى فرض وقف إطلاق النار بالطريقة التي تضمن بقاء النظام وتطيل من عمره وتقيد قوات المعارضة وتزرع فكرة التقسيم المستقبلي للبلاد..
منذ عام 2012 والمجتمع الدولي يطلق على الحرب السورية وصف «مأساة القرن»، ولا يجد لها أي حل، بل يمعن في التغاضي عن تمادي الإجرام الذي يلحق ببلاد الشام إلى درجة لم يعد أمامه سوى تكرار الوصف عند كل محطة من محطات الفظائع الشنيعة التي تتوالى, لذلك قد تبقى الأزمة السورية حبيسة الرغبة الروسية ومسلسلات أستانة لوقت طويل.
المركز الصحفي السوري – حازم الحلبي.