«لقد تغير العالم… وإن غدا لن يشبه اليوم»، هذا ما قاله الرئيس الفرنسي ماكرون، بعد جائحة كورونا، مكررا ما قاله الرئيس الصينى قبله بأيام؛ أما داهية السياسة الخارجية ومستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق، هنرى كيسنجر، فيرى بأن «فيروس كورونا سيغير النظام العالمى إلى الأبد».
هذه الكلمات، والتى صدرت عن قادة ومفكرين من شرق العالم وغربه ووسطه، تظهر بوضوح أن التغيير القادم سيكون هائلا؛ وأن عالم ما بعد كورونا لن يكون كسابقه. لذا، سنحاول فى هذا المقال استشراف سمات عالم ما بعد كورونا، حتى نتمكن من صياغة سياسات مناسبة للتعامل مع هذا المستقبل الغامض.
ولكي تكون عملية الاستشراف تلك، علمية ومنهجية، سنحاول فى هذا المقال التعرف على الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية الرئيسية لوباء كورونا على مستقبل العالم.
كورونا… «كساد اجتماعي» وإحباط طويل المدى..
تعتبر التبعات الاجتماعية لكورونا أكبر حجما وأعمق وأدوم أثرا من تبعاته الاقتصادية، خاصة فى المجتمعات الغربية.
ففي تلك المجتمعات التى يعيش أفرادها حياة ناعمة منضبطة ومستقرة، ولم يتعرضوا لتقلبات الحياة، يصبح الفرد أكثر هشاشة من الناحية النفسية. ومع طغيان النزعة الفردية فى هذه المجتمعات، تضعف «المناعة النفسية» للفرد والمجتمع، وتظهر العديد من الأمراض النفسية والاجتماعية. كما أن تفاقم تلك الجائحة بهذا الشكل الكبير والسريع فى دول الغرب المتقدم، لم يثر الذعر والإحباط لدى الأفراد فقط، بل لدى الحكومات والقيادات.
كورونا والعالم النامي… «فرصة نادرة»
فى ضوء هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى والمتسارعة التى أحدثها وباء كورونا، تتشكل عالميا ظاهرتان مهمتان لهما أثر كبير على العالم النامي، وهما: تصاعد صراع القوى الكبرى على قيادة العالم، وانشغال تلك القوى بنفسها وانغلاقها، إلى حد كبير، نحو الداخل.
تشير العديد من التقارير إلى أن صراع القوى الكبرى قد ازدادت حدته بعد هذا الوباء؛ نظرا للتفاوت الكبير فى حجم الضرر المتوقع أن يلحق بهذه القوى، وفي مدى قدرة المجتمعات على تحمل تبعات هذه الأضرار، نظرا للتفاوت الكبير فى طبيعة نظمها السياسية والاقتصادية. وترى تلك التقارير بأن من يخرج أولا من محنة كورونا سيتمكن من تحقيق نقاط هائلة على سلم السيطرة. وهو ما ستتبدل معه الكثير من التحالفات وظهور تكتلات اقتصادية وسياسية جديدة.
من ناحية ثانية، فقد جعل كورونا تلك القوى مشغولة بنفسها، إلى حد كبير. كما أنه قد قلص تطلعاتها وقدراتها الاستعمارية؛ فبجانب انشغال الجيوش فى المشاركة فى عمليات مجابهة الوباء داخليا، فإن انتشار الوباء داخل الجيوش، وخاصة على حاملات الطائرات، يحد بشكل كبير من سطوتها العسكرية الخارجية.
ويكفي هنا أن نشير إلى ما قامت به العديد من هذه القوى من سحب قواتها من الخارج.
وعليه، فمن المتوقع أن تتقلص الأطماع الاستعمارية للقوى الكبرى لصعوبة تحقيقها. كما أنها قد صارت أكثر حاجة إلى التعاون لتحقيق نمو اقتصادى أفضل. كما أن الخيار العسكرى فى حل نزاعاتها، أو تحقيق أطماعها، قد صار أبعد مما كان عليه فى أي وقت مضى.
وأخيرا، فإن الفجوة التنموية بين العالمين، المتقدم والنامي، قد بدأت فى التناقص نتيجة لانخفاض انتشار كورونا وانخفاض كلفته الاقتصادية فى العالم النامي مقارنة بالعالم المتقدم.
هذه المتغيرات توفر فرصة نادرة لصياغة نظام عالمي جديد أكثر عدلا؛ إذا إن التفاوض فى هذه الحالة لن يكون بين منتصر ومهزوم، كما كانت الحال عند صياغة النظام العالمي الحالي، بل سيكون بين مهزوم ومهزوم جدا.
هذا الوضع يوفر فرصة نادرة للعالم النامي للضغط لصياغة نظام دولي أكثر عدلا من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية.
محمود معراوي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع