عندما انطلقت الثورة السورية في شهر مارس 2011، ضمن مجمل ثورات “الربيع العربي”، التي اندلعت من تونس في العام 2010، وشملت بعدها مصر واليمن وليبيا، والتي امتدت لتشمل السودان والجزائر ولبنان والعراق (في موجتها الثانية قبل أكثر من عام)، ما كان من الممكن تصور كل ما حصل، والذي فاق أكثر التوقّعات والتخيّلات بؤسا وسوءا.
في المحصّلة تمخّض الصراع الجاري في سوريا، منذ تسعة أعوام، عن كارثة بكل معاني الكلمة، وهو المسار الذي وصم معظم ثورات الربيع العربي، بشكل أو بآخر، ولكن ما جرى في سوريا كان الأقسى والأصعب والأكثر هولاً، مع تفكك الدولة والمجتمع، وقتلى بمئات الألوف، وتشرّد الملايين، ودمار العمران، ومؤخرا مع تحوّل البلد إلى ساحة لتصارع قوى دولية وإقليمية، أهمها الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، مع ميليشيات عابرة للحدود.
على أي حال، ففي لحظة البدايات، أي لحظة اندلاع الثورة، التي اتسمت بالعفوية والسلمية والتوق للحرية عبر إحداث تغيير سياسي، ما كان من الممكن توقع استخدام النظام السوري للبراميل المتفجرة والصواريخ والقصف الجوي والمدفعي، على النحو الذي تم به، ولا كان من المتوقع التحوّل نحو العمل المسلح وحده، بدعم من قوى خارجية بالشكل الذي شهدناه.
أيضا، لم يكن من المتوقع مصرع كل هذا العدد من السوريين، وتشريد الملايين منهم، لمجرد طلبهم التغيير السياسي في بلدهم، ولا ظهور تنظيم مثل داعش أو جبهة النصرة، ولا تدخّل بلدين كبيرين مثل روسيا وإيران في الصراع الداخلي.
لكن، في المقابل، فقد كان من المتوقع لجوء النظام إلى الحل الأمني، في ظل شعاره “سوريا الأسد إلى الأبد”، الذي لا يعترف فيه للسوريين بحقوق المواطنة، ويعتبر فيه سوريا مجرد مزرعة وراثية.
بمعنى أنه كان من المتوقع قسوة شديدة من النظام في التعامل مع البيئات الشعبية المتمردة عليه، وضمن ذلك سقوط قتلى ومعتقلون بعدد كبير، كما كان المتوقع وجود تدخلات إقليمية ودولية داعمة للنظام.
على أي حال فإن الكلام المذكور بات خلفنا، بعد كل ما حصل، ما يفترض عدم العيش في الماضي، وأخذ عديد من التحوّلات في الحسبان، والتي ربما يكمن أهمها في الآتي:
أولا، ما عاد بالإمكان الحديث عن ثورة في سوريا، فتلك تم قتلها أو إجهاضها أو تبديدها، عمليا، من أطراف عديدة، بطريقة أو بأخرى، وهذا الكلام لا يقلل من شأنها، ولا من مشروعيتها، لكن الرغبات والتخيلات شيء والواقع شيء آخر.
أما ما بتنا نشهده اليوم فهو نوع من صراع على سوريا، وهذا أمر مختلف، بمعنى أن نتيجة الصراع لم تعد تتوقف عمّا يريده الشعب السوري، ولا النظام السوري، وإنما وفقا لما تريده الأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة، أي أن العامل الخارجي، بأطرافه المتعددة فوّت الثورة، وفوّت مطالب الشعب السوري، وهو ما بتنا نشهده في مخرجات مفاوضات أستانة وسوتشي ومؤخرا موسكو، كما في القرارات الدولية.
والمعنى من طل ذلك أن التسوية التي قد تأتي لاحقا ستلحظ فقط إعادة الاستقرار للبلد، وإيجاد نوع من التوازنات فيه، ، وربما أن تلك المرحلة قد تشكّل مدخلا أو مفتاحا لمرحلة أخرى، ربما تأخذ سوريا أو تمهد لأخذها، نحو التغيير السياسي المنشود، باتجاه قيام دولة تتأسس على المواطنين والديمقراطية.
ثانيا، بعد كل ما جرى في سوريا في السنوات التسع الماضية، لم يعد بالإمكان الحديث عن استقرار، وعن إعادة اللحمة في المجتمع، بكل مكوّناته الإثنية والدينية والمذهبية والمناطقية، من دون بناء إجماع وطني جديد، لأن ما تهشّم في البلد ليس فقط البني التحتية ولا المدن لوحدها، وإنما العمران البشري أيضا، وضمن ذلك طريقة رؤية السوريين لذاتهم كشعب، أي إن أي محاولة تشتغل على عملية التغيير يفترض أن تأخذ تلك المسألة بعين الاعتبار.
ومن الواضح أن حجم التشققات والجدران والخنادق التي باتت تباعد أو تفرّق بين السوريين أضحت تتطلب عدة عوامل أو مداخلات لجسرها، ربما أهمها الزمن، والثقة، وإجماعات وطنية جديدة، والتوافق على دولة مواطنين أحرار ومتساوين.
ثالثا، ما يفترض أن يدركه السوريون في هذا المجال، أيضا، أن أي محاولة لإعادة بناء إجماعاتهم تتطلب، قبل أي شيء، وقبل أي أحد آخر، الابتعاد عن أي ولاءات أو أجندات خارجية، لأن عكس ذلك سيكون على حسابهم، أي على حساب رؤيتهم لذاتهم كشعب، وعلى حساب مصلحتهم في الاستقرار والتغيير السياسي، في واقع لا تشتغل به الدول الأخرى كجمعيات خيرية، ولا كنوادي حقوق إنسان، وشاهدُنا على ذلك تبعات السياسة التركية، وضمن ذلك سكوت “المعارضة” السورية عن تحالف أستانة الثلاثي (مع روسيا وإيران)، أو تبريره، لثلاثة أعوام، مع كل الويلات التي جلبها على السوريين، وضمن ذلك اتفاق موسكو الأخير بشأن إدلب.
في الواقع بعد تسعة أعوام من الصراع السوري، لا توجد مأساة تضاهي مأساة السوريين، وخيبات أملهم، ولا مصيبة تضاهي إخفاقات معارضتهم، وأكثر من ذلك فإن السوريين هم الغائب الأكبر في كل المعادلات السياسية الجارية اليوم، فالروسي والتركي يتفاوضان كل على حصته من جسدهم، والإيراني يسعى لقضم أكبر حصة من لحمهم الحي، والإسرائيلي يسرح ويمرح في فضائهم، في حين تقف الولايات المتحدة بانتظار فرض ما تريده بعد أن تشبع من تلك اللعبة.
نقلا عن صحيفة العرب