“حلب الكواكبي” مركز تاريخي لمقاومة الاستبداد والاستعمار

لم تكن هذه المرة الأولى في التاريخ والتي تتحمل بها المدينة السورية حلب ضريبة وقوفها في وجه الاستبداد والاستعمار، فمنذ حضورها كأقدم حاضرة في التاريخ؛ تنازعتها الإمبراطوريات، وتقاتل عليها الملوك.
كما تدمرت حلب عدة مرات في التاريخ القديم، وغزاها الصليبيون وعاثوا فيها فسادا، ثم تعرضت لزلزال مدمر أزالها عن بكرة أبيها، وغزاها المغول وخربوها ودمروها، وبنى تيمورلنك من جماجم أهلها جبالا في غزو ثانٍ للتتار، وقامت وقاومت في كل هذه المرات، رافضة الاستبداد والاستعمار.
في وجه البيزنطيين

بلغت حلب أوجها في عهد المملكة الحمدانية، تحت حكم سيف الدولة الحمداني، والتي كانت في عهده ثغرا للوقوف في وجه المد البيزنطي للعالم الإسلامي ككل.
دفعت المدينة ضريبة ذلك، حيث تعرضت المدينة للحصار، أثناء الصراع البيزنطي السلجوقي، انتهى باحتلالها وحرقها وتدميرها وإفقارها من أهلها ما بين قتيل وأسير، وعندما عاد سيف الدولة إلى مدينته، حيث إنه كان غائبا عنها أثناء فترة الحصار، بعد عامين ووجدها خاوية على عروشها قام بإعادة بنائها واستقدم بعض من أهالي قنسرين ليساعدوه في إعادة حلب إلى مجدها.
توفي سيف الدولة بعدها ليترك حلب قرنين من الضياع والفوضى، توالى خلاله على حكمها الفاطميون والمرداسيون وفترة تزايد خلالها النفوذ التركي فيها والسلاجقة وشهدت المدينة خلال هذه الفترة خضوعا حزينا للروم ثم اتت الحملات الصليبية التي اجتاحتها مرتين، لكنها لم تستطع احتلالها لمناعة تحصينها.
ضد الفرنجة
ولم ينته عصر الفوضى والضياع إلا على يد الأمير عماد الدين وابنه نور الدين الزنكي، حيث أصبحت حلب مركز المقاومة الإسلامية ضد الفرنجة، وبدأت أحوال حلب بالتحسن، إلا أن  زلزال حلب المدمر عام 1138 م الذي يعد رابع أقوى زلزال في التاريخ من حيث الخسائر وراح ضحيته أكثر من 230 ألف إنسان، ناهيك عن الدمار الشبه كامل الذي حل بالمدينة.
قام نور الدين على إثر هذا الزلزال بأعمال عمرانية كبيرة داخل المدينة وفي الأسوار فأعاد بناء القلعة حتى أخذت شكلها النهائي الذي نراها عليه اليوم، ثم دخلت المدينة في حكم صلاح الدين في الدولة الأيوبية منذ عام 1183م.
ضد المغول

في عام 1260 م، تم احتلال المدينة من قبل المغول تحت قيادة هولاكو بالتعاون مع حاكم أنطاكية بوهيموند السادس، ودافعت عن المدينة حامية متواضعة من قبل الملك الأيوبي غياث الدين طوران شاه، لكنها سقطت بعد ستة أيام من القصف المستمر بالمنجنيقات، وسقطت القلعة بعد أربع أسابيع، وذبح السكان بوحشية.
بعد موقعة عين جالوت 1260/ بقيادة الملك المظفر سيف الدين قطز، استطاع المماليك استعادة دمشق ثم حلب.
استقلت حلب عن الدولة المملوكية المركزية في القاهرة عندما قام الملك الظاهر بيبرس المملوكي بإعلان الانفصال، وأرسل قواته في خريف عام 1261 لاستعادة المدينة.
في تشرين الأول لعام 1271 م هاجم المغول مرةً أخرى حلب بجيشٍ يضم عشرة آلاف فارس قادمين من الأناضول بعد هزيمتهم للتركمان الذين حاولوا المساعدة في حماية المدينة، ونجحوا في احتلالها وتقدموا نحو حماة، لكن الظاهر بيبرس أعد جيشاً قويا تمكن من إجبار المغول على الجلاء عن حلب مرة أخرى.
استولى المغول مجدداً على المدينة في 20 تشرين الأول 1280 وعاثوا فيها فساداً وتدميراً في الجوامع والأسواق، وهرب السكان نحو دمشق، ليقوم القائد المملوكي سيف الدين قلاوون بتجهيز قواته للرد، وما إن رأى المغول الجحافل تتقدم حتى تراجعو هرباً إلى ما بعد نهر الفرات.
ضد الاحتلال الفرنسي
في عام 1923، قامت فرنسا باقتراح قيام فيدرالية ولايات سوريا بما فيها ولايات لبنان، ليتم في النهاية ضم ولاياتٍ ثلاث، ولاية حلب ودمشق واللاذقية، تم تحديد حلب كعاصمةٍ بداية، ثم ما لبثت أن أعيدت إلى دمشق، وكان رئيس الفيدرالية هو السيد صبحي بركات من مواليد مدينة حلب.
تم إيقاف العمل بالفيدرالية عام 1924 عندما قامت فرنسا ولنفس أسباب التفرقة بفصل حلب ودمشق في ولاية وجعل ولاية اللاذقية ولاية منفصلةً للعلويين بعد أن استشعر الفرنسيون خطر نزعة استقلالية بعد فترةٍ من اتحاد الولايات الثلاث. وبعد هذا بقليل في عام 1925 قامت في السويداء جبل الدروز الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، وأعلن البرلمان الحلبي الانفصال عن دمشق.
ثار الوطنيون في حلب بقيادة إبراهيم هنانو، وأحبطوا المشروع الفرنسي بعد أن أقاموا الاحتجاجات والتظاهرات وقاموا بقطع الطرق المؤدية إلى البرلمان يوم التصويت لمنع أعضائه من الوصول والتصويت على قرارهم المتوقع، وفي عام 1930 كانت حلب جزءاً من الجمهورية السورية.
وفي عام 1936 تم توقيع معاهدة الاستقلال مع فرنسا وقيام حكومة الملك فيصل، ونالت حلب استقلالها كجزء من سوريا مجدداً في عام 1946 بعد أن قامت حكومة فيشي الفرنسية بنقض المعاهدة السابقة واعادة احتلال سوريا عام 1941.
ضد الاستبداد

حضرت حلب في الثورة السورية ضد الاستبداد، وأصبحت مع الوقت معقلا للثورة السورية والثوار، وكانت أول مدينة يتواجدون بها منذ عام 2012، عندما دخل لواء التوحيد، بقيادة عبد القادر الصالح.
بعد دخول الجيش السوري الحر إلى مدينة حلب، تركز وجوده في الأحياء الشرقية، ووجود النظام في الأحياء الغربية، وبدأ النظام السوري قصفه العنيف عليها، لتوصف بأنها أخطر مدينة في العالم في عام 2014.
بقيت المدينة منقسمة ما بين الجيش السوري الحر، وجيش النظام السوري، لثلاث سنوات، إلا أن إعلان التدخل الروسي في نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 مثل نقطة فارقة.
كثف الطيران الروسي وطيران النظام السوري قصفه على أحياء حلب الشرقية، وشهد عشرات الآلاف مصرعهم خلال عام ونصف من القصف.
في منتصف أيلول/ سبتمبر 2016، أعلنت روسيا نهاية هدنة معلنة بين النظام والفصائل، وقرر النظام استعادة السيطرة على المناطق التي تسيطر عليها الفصائل، فبدأت حملة عسكرية كثيفة، مترافقة مع حصار للمدنيين وإغلاق لكل المداخل والمخارج، استطاع خلاله استعادة السيطرة على نصف أحياء حلب الشرقية، التي كانت تسيطر عليها المعارضة.
شخصيات حلبية

ولكون حلب مركزا لمكافحة الاستعمار والاستبداد، فقد احتضنت عددا من “المقاومين”، وأشهرهم عبد الرحمن الكواكبي، صاحب كتاب: “طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد”.
والكواكبي يعرف بأنه أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي.
سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء.
وأمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ربما ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعا.
أما الشخصية الأخرى التي تمثل مقاومة الاستعمار، فهو سليمان الحلبي، طالب سوري كان يدرس بالأزهر الشريف، كان عمره 24 عاماً حين اغتال قائد الحملة الفرنسية على مصر (1798م-1801م) الجنرال كليبر (أو ساري عسكر) كما أطلق عليه الجبرتي.
سافر سليمان الحلبي من حلب إلى القدس عندما عاد الوزير العثماني بعد هزيمته أمام الفرنسيين بعد 10 أيام سافر من غزة في قافلة صابون ودخان، ووصل القاهرة بعد ستة أيام، ثم عاد إلى الأزهر وسكن هناك.
كان عمره 24 عاماً حين اغتال قائد الحملة الفرنسية على مصر (1798م-1801م)، حيث أن كليبر ومعه كبير المهندسين بالبستان الذي بداره بحي الأزبكية (وهو مقر القيادة العامة بالقاهرة)، فتنكر سليمان الحلبي في هيئة شحاذ عند كليبر ودخل عليه، وعمد سليمان الحلبي يده وشده بعنف وطعنه أربعة طعنات متوالية أردته قتيلا، وحين حاول كبير المهندسين الدفاع عن كليبر طعنه أيضا ولكنه لم يمت، فيندفع جنود الحراسة الذين استنفرهم الصراخ فيجدوا قائدهم قتيلا.
امتلأت الشوارع بالجنود الفرنسيين وخشي الأهالي من مذبحة شاملة انتقاماً من الاغتيال، بينما تصور الفرنسيون أن عملية الاغتيال هي إشارة لبدء انتفاضة جديدة، أما سليمان فقد اختبأ في حديقة مجاورة. إلى أن أمسكوا به ومعه الخنجر الذي ارتكب به الحادث (والذي يحتفظ به الفرنسيون إلى يومنا هذا في متحف الإنسان).
يروي كتاب “المختار من تاريخ الجبرتي”، أن الفرنسيين حكموا عليه بحرق يده اليمنى وبعده، يتخوزق ويبقى على الخازوق لحين تأكل رمته الطيور.
عربي21

اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا

 

المقالات ذات الصلة

النشرة البريدية

اشترك ليصلك بالبريد الالكتروني كل جديد:

ابحثهنا



Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist