في خضم الصراعات السياسية المغلفة، أحيانا، بطابع الصدام الإقليمي والدولي في العراق، تضيع تفاصيل إنسانية كثيرة لا يمكن السكوت عنها والمرور عليها مرور الكرام، بل بات من الواجب الإنساني والأخلاقي التذكير بها، كلما سنحت الفرصة لذلك. ولعل واحدة من بين أكثر القضايا التي ينطبق عليها ذلك مأساة النازحين العراقيين الذين يقارب عددهم المليون نازح، وفقاً لبيانات وزارة الهجرة والمهجّرين في العراق، موزّعين على 55 مخيماً تفتقر لأبسط حقوق العيش الكريم، ليس من ناحية انعدام الخدمات وغياب الرعاية اللازمة وحسب، ولكن لأنها تعيش واقعاً أخطر يتمثل في التحرّش الذي تتعرض له نساء تلك المخيمات، والابتزاز وامتهان الكرامة، ناهيك عن عدم إصدار وثائق رسمية لكثيرين منهم، بسبب تعنت جهاتٍ متنفذةٍ داخل السلطة التنفيذية في العراق.
ولعل الوسم الذي رفعه مرصد “أفاد” العراقي، قبل أيام، في حملته التي سلط فيها الضوء على ملفات الفساد الكبيرة في هذا الملف، “رجعونا_لبيوتنا”، يلخص الكثير من تلك المعاناة الإنسانية التي تُدمي القلب، فعلى الرغم من مضي قرابة الأربعة أعوام على نهاية المعارك ضد الإرهاب في عموم العراق، فإن معاناة النازحين ما زالت تكبر وتشتدّ في ظل وجود جهاتٍ مستفيدةٍ من بقاء هذا الملف وبقاء هذه المخيمات، فقد كشف المرصد العراقي “أفاد” عن وجود جهاتٍ متنفذةٍ تحصل على عقود ضخمة لتوزيع المواد الغذائية في عقود فسادٍ مكشوفة، تصل إلى جيوب جهات مختلفة، بعضها مليشيات مسلحة، وبعضها الآخر أحزاب، في حين أن بقاء هذا الملف وهذه المخيمات يمثل سبباً لبقاء وزارةٍ بكامل موظفيها، هي وزارة الهجرة والمهجّرين التي لو قيّض لهذا الملف أن يغلق ويعود كل نازح إلى بيته لما عاد لها حاجة.
ليس هذا فحسب، بل هناك أغراضٌ سياسية من بقاء النازحين في خيمهم المتهرئة، ويتمثل ذلك بالتغيير الديمغرافي الذي تعمل عليه جهات حكومية وحزبية ومسلحة، كما الحال مع النازحين العراقيين من منطقة جرف الصخر جنوب العاصمة بغداد التي تحوّلت إلى منطقة شبه عسكرية، تسيطر عليها ما تعرف بالمليشيات الولائية التابعة لإيران، والتي ترفض حتى أن يزورها أي مسؤول حكومي، حتى لو كان رئيسا لحكومة.
وتتعرّض نسوة كثيرات في مخيمات النزوح لعمليات تحرّش وابتزاز رخيص، تمارسه جهات مسلحة، بعضها مليشيات تنضوي تحت ما تعرف بهيئة الحشد الشعبي، المؤسسة الرسمية، وبعض تلك الممارسات اللاأخلاقية تقوم بها جهات أمنية حكومية، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن الأسباب التي تدفع حكومة بغداد إلى التغاضي عن هذا الملف، على الرغم مما يشكله من حساسية أخلاقية وإنسانية، وما يتركه من آثار سوف يصعب التعامل مع كثير منها مستقبلاً.
هناك اليوم حاجة ملحّة إلى إغلاق هذا الملف، وعلى حكومة مصطفى الكاظمي أن تكون أكثر جدّية في التعامل معها، وألا يترك نهباً لمصالح الأحزاب والمليشيات والجهات التي تتلاعب بهذا الملف، لأغراض وغايات سياسية، فاليوم لم يعد مقبولاً أن تستمر هذه المأساة، ولم يعد مقبولاً منع النازحين من العودة إلى منازلهم، بحجة أن بعضهم من عوائل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أو أن بعضهم ترفض عودته هذه المليشيا أو تلك تحت أي سببٍ كان.
وإذا كانت حكومة الكاظمي تتذرّع بعدم وجود التخصيصات المالية اللازمة لعودة النازحين، بسبب الأزمة المالية الخانقة التي يعيشها العراق، فهل منع التحرّش والإبتزاز الذي يتعرّض إليه آلاف النازحين بحاجةٍ، هو الآخر، إلى أموال وتخصيصات؟ هل منح آلاف منهم حقوقهم المدنية من وثائق رسمية بحاجة هو الآخر إلى تخصيصات مالية؟ ثم لماذا لا يتم كشف الفاسدين المتلاعبين بهذا الملف؟ هل الأمر معقّد كما هو الحال مع كشف الجهات المسلحة التي تستهدف البعثات الدبلوماسية في بغداد؟ لم يعد مقبولاً، بعد اليوم، تسويف المطالب، فالتظاهرات الشعبية التي جاءت بالكاظمي لن تتوقف، على الرغم من كل التهديدات التي يتعرّض لها شباب الثورة التشرينية، كما أن ما كان يدور في الخفاء سابقاً من قضايا فساد ورشى وتلاعب بالعقود بات مكشوفاً، ناهيك طبعا عما فعلته وسائل التواصل الاجتماعي من كشف الكثير من واقع تلك المخيمات البائسة، وما يتعرّض له سكانها.
لذا، فإن أول الملفات التي يجب أن يسعى الكاظمي إلى غلقها هو ملف النازحين، خصوصا أن التقارير الحقوقية أكّدت أن تلك المخيمات باتت غير صالحة للاستعمال جرّاء تقادم الزمن عليها، ونحن مقبلون على شتاء قارس، مصحوب بتفشٍّ لفيروس كورونا في العراق، ما يعني أن الخطر داهم وكبير، وإن على الجميع الإستنفار لعودة قرابة المليون نازح إلى منازلهم، وعدم ترك هذا الملف الإنساني الحساس عرضةً لتجاذبات الفساد وصراعات السياسة.
نقلا عن العربي الجديد