ويعترف أبو صبري (90 عاماً) بأنه توقف منذ سنوات عن التمسك بالأمل بالعودة يوماً إلى قريته الأصلية «علاّر»، وقال بنبرة حزينة «أعرف أننا سنعود. لكن لست أنا… ربما أحفادي، أو جيل آخر بعد ذلك».
بدوره، يدرك الحاج عبد المجيد أبو سرور (87 عاماً) أن «القطار قد فات»، على الرغم من أنه يحتفظ بمفتاح بيته في «بيت نتيف» نظيفاً، مثلما يفعل عبد القادر اللحام (97 عاماً)، الذي يخبئ لليوم أوراق ملكية أراضيه في قرية (بيت عطاب). لكن أكثر ما يعزي هؤلاء الفلسطينيين جميعاً هو أنهم يسمعون من أحفادهم كلما سنحت الفرصة بأنهم عازمون على العودة إلى بيوتهم الأصلية، وأنهم لن يتنازلوا أبداً عن حقهم فيها، وهو حق يصفه الفلسطينيون بأنه مقدس ولا يسقط بالتقادم.
وخرج هؤلاء الأحفاد أول من أمس بالآلاف في مسيرات كبيرة في الضفة الغربية ومخيمات الشتات، وحتى في مناطق بعيدة، يحملون شعار «حق مقدس لا يسقط بالتقادم»، واشتبكوا مع الجيش الإسرائيلي في نقاط عدة في الذكرى السبعين للنكبة، التي لم يختبروها قط، مثيرين لدى محتليهم الكثير من الدهشة والأسئلة حول سر تمسك هؤلاء بعد كل هذا الوقت ببيوت لم يعيشوا فيها، وصارت أثراً بعد عين.
عن هذا التساؤل يجيب أحمد مزهر (41 عاماً)، الذي استقل سيارة مستأجرة عندما سنحت له فرصة نادرة لدخول القدس، وطلب من السائق التوجه به مباشرة إلى قرية «خلده» التي هُجّر أجداده منها، وقال بنبرة حازمة «حق جدي وأبي هو حقي». مضيفاً: «حقنا اليوم، أو بعد 100 سنة، لا يسقط ولا يضيع. وسأخبر ابني أن له بيتاً وأرضاً مثلما فعلت والدتي معي».
لم يفهم السائق فوراً ماذا يريد منه مزهر، فرد عليه موضحاً «توجد هناك مستوطنة، لن نستطيع الدخول»، فأجاب اللاجئ المشتاق «المهم أن نصل المكان. أنا أريد رؤية القرية والمستوطنة التي بنيت عليها. أريد أن اشم رائحة المنطقة».
كانت هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها مزهر إلى مشارف قريته، وهناك وقف على الأطلال مستذكراً روايات والدته عن المكان الأول. يقول مزهر «تأثرت كثيراً. القضية ليست متعلقة بمسألة إن كنت عشت هناك أو لا. الذي لا يفهمه الإسرائيليون هو أن هذا المكان هو بيتي وبيت أبي وجدي. نحن لن ننسى… لن نوقع… لن نتنازل… ولا أحد يملك الحق في أن يوقع عني».
ومثل غيره من ملايين اللاجئين الشبان والأطفال، كان مزهر يسمع يومياً من العائلة، أو الجيران حكايات عن الرحيل والمعاناة، عن الأمل واليأس، وعن المعارك والخيانات، وعن المفاتيح وأوراق «الطابو»، وهذا جعل المشاعر جياشة طيلة الوقت.
يقول رائد عودة (30 عاماً)، إن جدته لم تسأم من سرد ذكرياتها يوماً، وأنها أوصتهم بنقل جثمانها إلى القرية ولو بعد حين. وقد سمع رائد من جدته الحاجة عايشة عودة (87 عاماً)، التي تنحدر من قرية «السِفلة»، تفاصيل دقيقة عن الشوارع والحارات والبيوت والجيران والأصدقاء.
ومثلما كانت العودة إلى القرية هي الحلم الأصعب لدى آلاف الفلسطينيين الذين هُجّروا من قراهم، أصبحت كذلك حلم الملايين من اللاجئين، الذين تضاعف عددهم خلال 70 عاماً بنحو 9 مرات. وقد أصبح أبناؤهم اليوم يحفظون أسماء قراهم واحدة واحدة، وتفاصيل كثيرة ورثوها عن الآباء.
ويحيي هؤلاء كل عام ذكرى النكبة بصفارات إنذار وإضرابات ومسيرات ومظاهرات، وفعاليات وإعلام سوداء، متسلحين أيضاً بموقف سياسي فلسطيني رافض لأي تسوية غير منصفة لقضية اللاجئين. وقد فجّرت قضية اللاجئين إلى جانب القدس خلافاً حاداً خلال 20 عاماً من التفاوض مع إسرائيل، دون أن يصل الطرفان إلى أي حلول ممكنة، لكن في العام الأخير فجّرت القضية كذلك خلافاً حاداً ومباشراً مع الولايات المتحدة الأميركية، حيث أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس مراراً، أنه لن يقبل باستمرار الدور الأميركي في عملية السلام بعد استبعاد الإدارة الأميركية لملفي القدس واللاجئين من على طاولة المفاوضات. وقد قال عباس الاثنين «إذا كان ولا بد، فنحن لن نقبل إلا وساطة دولية تأتي من خلال مؤتمر دولي بعدد من دول العالم، وليس دولة واحدة على الإطلاق، ولن يقبل من أميركا ما تدعيه أو تتحدث عنه عن الصفقة… الصفقة وصلت. نحن علمنا بها وفهمناها، فعندما يزيحون القدس واللاجئين من طاولة المفاوضات فإن هذه هي الصفقة، ما عدا ذلك كله كلام فارغ، نحن لن نقبل أو نسمع منهم حتى لو جاؤوا بأحسن من هذا». ويصرّ عباس على حل عادل لقضية اللاجئين، وفق القرارات الشرعية الدولية في إطار قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948، وفي إطار المبادرة العربية التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002، لكن إسرائيل ترفض رفضاً قاطعاً هذا الطرح، ولا تعترف بوجود لاجئين أو أي حق لهم بالعودة.
ويعتقد أن إسرائيل توصلت مع الولايات المتحدة إلى تسوية تنص على أنه يمكن تعويض اللاجئين، الذين غادروا فعلاً قراهم. لكن ذلك لا ينطبق على الأبناء والأحفاد.
يقول عماد حماد (22 عاماً) الذي ينحدر من قرية عجور «لا يقرر ترمب أو غيره. هناك يوجد بيتي. سأعود أنا أو ابني. أنا أنتمي إلى هناك، وليس لأي مكان آخر».
المصدر الشرق الأوسط