كي لا يأخذنا الحقد واليأس والتضليل بعيداً عن الحقيقية، لا بد أن نضع النقاط على الحروف، ليس تبرئة لطرف ضد طرف في المسألة السورية، بل كي نفهم الواقع بشكل دقيق. لقد لاحظنا منذ بداية الثورة أن هناك ميلاً لدى غالبية السوريين المعارضين للنظام لتصوير أنفسهم دون غيرهم على أنهم ضحية المؤامرات الدولية، وأن العالم أجمع في الشرق والغرب متحالف مع النظام ضد الثورة والمعارضة. وقد امتلأت شبكات التواصل الاجتماعي بمنشورات وتعليقات منذ سنوات، وكلها تتحدث عن التآمر الدولي والعربي مع النظام ضد الثورة. ولطالما قرأنا مقالات وكتابات تتحدث بإسهاب عن الحماية الإسرائيلية لنظام الأسد، وأن النظام لولا الغطاء الإسرائيلي لكان قد سقط منذ الأيام الأولى للحراك في سوريا قبل أكثر من ثمان سنوات.
ولطالما قرأنا وسمعنا أن أمريكا وإسرائيل والغرب عموماً هو الذي طلب من الروس والإيرانيين التدخل في سوريا لحماية النظام من السقوط بعد أن اعترف الروس أنفسهم بأنه كان على وشك السقوط الكامل فعلاً لولا تدخلهم. ولا شك مطلقاً بأن التدخل الروسي والإيراني المدعوم أمريكياً أعاد الحياة للنظام المتهاوي وقضى على معظم الفصائل التي كانت تقاتله في أكثر من منطقة بسوريا. ولا شك أن الروس قلبوا المعادلة على الأرض لصالح النظام باستخدام القوة الجوية العاتية التي دمرت البلاد وشردت العباد. ولا يمكننا هنا أيضاً أن نبرئ هذا النظام الفاشي من التآمر مع الروس والإيرانيين وكل داعميهم الأمريكيين والأوروبيين والإسرائيليين على الثورة السورية والشعب السوري وعلى سوريا ذاتها. لكن هذه الحقائق الدامغة يجب ألا تعمينا أيضاً أن نفس القوى التي وقفت إلى جانب النظام وقلبت الأوضاع لصالحه منذ التدخل الروسي عام 2015 هي نفسها من تآمر على النظام أيضاً في المقام الأول، وهي من أوصلته الآن إلى الحضيض. وهناك آلاف الأمثلة التي تؤكد ذلك.
دعونا نسلم بأن هناك غطاء دولياً يحمي النظام منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، وأن حتى إسرائيل التي يشيع النظام في إعلامه بأنها عدوته الأولى، ما زالت تحميه من السقوط في الدوائر الأمريكية. وكلنا يعلم أن إسرائيل لو كانت تريد إسقاط النظام فعلاً لاستغلت انهيار الجيش السوري قبل الغزو الروسي لسوريا وسحبت البساط من تحت النظام وأنهته إلى غير رجعة دون أن تطلق عليه رصاصة واحدة، لكنها لم تفعل، لا بل قامت بتسليم المنطقة الجنوبية التي كانت تديرها مع قوى المعارضة للنظام والروس، وأعادت العمل بالمعاهدات الدولية القديمة التي كان النظام بموجبها يحمي الحدود الإسرائيلية. ولا ننسى أن إسرائيل وأمريكا منعتا تسليم قوى المعارضة صاروخاً واحداً مضاداً للطائرات كي يبقى الأسد مسيطراً على الجو وقادراً على حرق الأخضر واليابس عبر البراميل المتفجرة. هذه حقائق لا يمكن التعامي عنها مطلقاً. وقد سمعنا وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان وقتها يوكد على أن التنسيق بين الروس والإسرائيليين جار على قدم وساق في سوريا على مدار الساعة. وهو ما يؤكد أن الأمريكيين والإسرائيليين يباركون إعادة الحياة للنظام. وقد ظهرت وثائق أمريكية مؤخراً تؤكد بأن الرئيس الأمريكي وقتها أوباما هو الذي ضغط على الرئيس الروسي بوتين كي يتدخل في سوريا للقضاء على المعارضة وإعادة السيطرة للنظام. ونحن نعلم أيضاً أن كل ما حصل من وحشية روسية وإيرانية وأسدية بعد التدخل الروسي في سوريا كان كله بضوء أخضر من أمريكا والغرب والعرب عموماً. لا شك في ذلك. لكن ذلك يجب ألا يُنسينا أيضاً أن نفس القوى التي ساعدت النظام بعد التدخل الروسي هي من زلزلت الأرض تحته قبل التدخل، وهي التي أوصلته الآن إلى هذا الوضع المزري الذي أصبح فيه الرئيس السوري خامس أقوى رئيس في سوريا، وأصبح فيه الجيش السوري مجرد تابع للقاعدة الروسية في حميميم والميليشيات الإيرانية المنشرة في كل البقاع السورية.
من الخطأ القول إن اللعبة الكبرى كانت فقط تستهدف قوى المعارضة والثورة فقط، لا أبداً، بل كانت تستهدف سوريا كلها، شعباً ومعارضة وثورة وثروات ونظاماً
صحيح أن ضباع العالم أحيوا النظام وأضعفوا قوى المعارضة، لكن كيف ننسى أن كل الجماعات والأسلحة التي حرقت جيش النظام وقتلت منه مئات الألوف كانت كلها بدعم أمريكي وإسرائيلي وغربي وعربي عموماً؟ لماذا نسينا أن الاستخبارات الأمريكية كانت تدير كل الفصائل والعمليات العسكرية ضد النظام شمال سوريا؟ ألم يقل بعض المعارضين السوريين إنهم كانوا يجلسون على طاولة يترأسها ضابط استخبارات أمريكي وإلى جانبه ضباط أوروبيون من أكثر من دولة أوروبية لتخطيط وتوجيه العمليات ضد النظام السوري؟ لماذا دخلت شاحنات الأسلحة الرهيبة إلى سوريا بمباركة الأمريكي والإسرائيلي، أليس لدك قوات النظام وإضعافها وإنهاكها؟ ألم تعترف روسيا أن قوى المعارضة مدعومة من أمريكا والعرب كادت أن تسقط النظام قبل التدخل الروسي بعد أن استولت على ثمانين بالمائة من سوريا وبعد أن قتلت عشرات الألوف من جنوده، ودمرت ترسانته العسكرية ومواقعه الاستراتيجية؟ هل كانت هذه مجرد مداعبات للنظام أم كانت ضربة نجلاء لجيشه وهيبته وقواعه ومكانته؟
ألم يصبح النظام بعد التدخل الدولي مجرد أداة في أيدي اللاعبين الكبار في سوريا؟ هل مازال يدير الدفة في البلاد، أم صار تابعاً ذليلاً لمن حموه؟ هل مازال يسيطر على سوريا؟ هل ستعود «سوريا الأسد» التي كانت؟ ماذا بقي من جيشه؟ ماذا بقي من أنيابه؟ ماذا بقي من الليرة السورية ومن الخزينة؟ ماذا بقي من اقتصاده؟ ماذا بقي من هيبته؟ لا يمكن لأمريكا وإسرائيل أن تفعلا بالنظام ما فعلتا لو كان فعلاً كلبهما المدلل، فلا أحد يربي كلباً كي يكسر رجله ويفقأ عينه ويهشم رأسه ويبقر بطنه، لكن أمريكا وإسرائيل كسرتا أنياب الكلب، ودقتا رأسه، وأشبعتاه ركلاً وسحلاً، بحيث فقد معظم أنيابه وصار كلباً ذليلاً يتوسل ويتسول الحماية من القاصي والداني. لم يعد النظام ذلك اللاعب القوي على الساحتين العربية والإقليمية، بل تحول إلى ملعب، أو كرة قدم تتقاذفها الأرجل، ولم يعد يملك من أمره شيئاً. ما هو موقف الأسد عندما يرى رؤساء روسيا وتركيا وإيران يجتمعون كل فترة لتقرير مصير بلده ونظامه؟
قد يقول البعض أن هذا النظام منذ وصوله إلى السلطة عام 1970 كان نظاماً وظيفياً خادماً أميناً للمشروع الصهيوني في المنطقة، وأنه ينفذ المخطط الصهيوني في سوريا والمنطقة بإخلاص، ولا شك في ذلك، لكنه انكشف الآن تماماً بعد أن فضحه مشغلوه وجعلوه يبدو في عيون السوريين والعرب ككلب صيد متوحش في خدمة أسياده في واشنطن وتل أبيب وموسكو، لا بل بات الآن كلب صيد هزيلاً لا يقوى على الصيد لأسياده. نعم كان هذا النظام خنجراً صهيونياً مسموماً في جسد سوريا والمنطقة، ولا شك في ذلك، نعم كان أداة قذرة في مشاريع الآخرين، لكنه فقد الآن ورقة التوت التي كان يغطي بها عوراته الكثيرة وقد لعبوا به كرة قدم كما لعبوا ببقية الأطراف.
ربما يمكننا القول إن السياسة الأمريكية كانت واضحة، ولكن الغالبية لم تستطع قراءتها كما يجب، فالأمريكان أرادوا إذلال الأسد قدر الإمكان حتى تتم عملية سحب كل الخيرات السورية أو أهمها إن صح التعبير تحت مظلتهم، وهي ملفات بغاية الأهمية يبدو أن تحقيقها بعد سقوط الأسد كان أمراً غير مفضل، فأبقوه في السلطة وكأنه رهينة لا رئيس، وتركوا المعارضة أيضا معلقة بحبال الآمال، وهي حبال أيضا ترفض واشنطن قطعها، بل ربما سيأتي يوما وتقوم الولايات المتحدة بتثبت تلك الأوتاد، وقطع حبال الأسد.
صدقوني، لولا الموقف الأمريكي الرافض للأسد اليوم، لم تكونوا لتروا لا أستانا ولا سوتشي ولا لجنة دستورية ولا ولا ولا، كل هذه المسارات موجودة لأن أمريكا لم تعط الضوء الأخضر لتعويم الأسد، وفي ذات الوقت موقفها هذا يجعل المعارضة السورية حية ترزق، ولولا هذا الموقف لكانت الأحوال اليوم خلاف على ما هي عليه بالمطلق.
بعبارة أخرى، من الخطأ القول إن اللعبة الكبرى كانت فقط تستهدف قوى المعارضة والثورة فقط، لا أبداً، بل كانت تستهدف سوريا كلها، شعباً ومعارضة وثورة وثروات ونظاماً.
كاتب واعلامي سوري فيصل قاسم
نقلا عن القدس العربي