مازلت أذكر تفاصيل لقائنا الأول.. كنت منهمكةً بإسعاف الجرحى في مشفىً ميداني بحلب، كان ذلك في أيلول من عام ٢٠١٢ مع بدايات تحرير الأحياء الشرقية لمدينة حلب من سطوة النظام وشبيحته.
بهذه الكلمات بدأت سلمى ( اسم مستعار) تروي لنا قصتها حين التقت للمرة الأولى بزوجها ثائر (اسم مستعار)، تكمل سلمى تختلجها مشاعر مختلطة بين سعادةٍ غامرة وألم يعتصر قلبها فتقول:
“كانت الغرفة ممتلئةً بالجرحى نحاول تضميد جراح هذا وإيقاف نزف ذاك، وإخراج شظايا متناثرة من جسد آخر، عندما أدخلوا مصاباً في حالةٍ خطرة.. الدماء تغطيه من كل جانب.
سارعتُ بإخراج شظيةٍ كبيرةٍ اخترقت كتفه، وقمت بمساعدة الطبيب المسعف بإيقاف النزف وخياط الأوردة وإغلاق الجرح الخطِر، ثم أكملت تنظيف وتضميد باقي جراحه المتناثرة على بقية جسده”.
بعد ساعاتٍ استيقظ ثائر من غيبوبته ليفتح عينيه، وأول ما رأى أمامه وجه سلمى، كانت تلك اللحظة بداية قصة حب جمعتهما، دون سابق إنذار، كما تقول سلمى.
لم تمضِ أيام حتى تعافى ثائر وتخرّج من المشفى، ليمسك بسلاحه ويعود إلى جبهات القتال، وصورة سلمى لاتفارق خياله.
تخبرنا سلمى كيف كان يختلق الحجج كل فترةٍ ليأتي إلى المشفى الميداني ليراها، حتى أنه أصبح يتمنى أن يصاب من جديد ليسعف إلى المشفى وتهتمّ به سلمى وتداويه.
مرت الشهور وهما على هذا الحال، وبراعم الحب بينهما تكبر لتزهر وتتوّج بعدها بزواجهما، لم تكن حفلة زواجهما عادية، بل استثنائية لدرجة أن قصتهما أصبحت حلم كل ثائرٍ من أصدقائه.
زُفّ العروسان في ساحة المشفى لترتدي سلمى معطفها الطبي الأبيض، ويرتدي ثائر بدلته العسكرية، على أنغام الأناشيد الثورية.
مضت سنوات وحبهما يكبر مع أحلامهما بالنصر وتحرير سوريا من نظام الأسد المجرم، وكلٌّ منهما في ميدانه يقدّم ويضحّي ويكمل ما أقسم عليه في الاستمرار حتى تحقيق أهداف الثورة أو الموت دونها.
أنجبت سلمى طفلين، بنت وولد، ولم يثنيها ذلك عن الاستمرار في العمل الطبي والإسعاف، كانت سعيدةً لحدّ لم تكن تشعر به بالخوف من القصف والتصعيد بكل أنواع الأسلحة من قبل قوات النظام على المدنيين في حلب، تقول سلمى: “كان وجود ثائر بقربي يشعرني بالقوة والأمان، لم أكن أخشى القصف، لكنني كنت أتحرّق خوفاً وقلقاً كلما خرج ثائر لصدّ اقتحامٍ، أو تنفيذ مهمة عسكرية، ولايهدأ لي بال حتى يعود سالماً إلى المنزل”.
إلى أن جاء ذاك اليوم الحزين.. حين مرّ ثائر بزوجته سلمى وهي بالمشفى ليودعها ويخبرها أنه ذاهب لصدّ هجوم كبير لقوات النظام على جبهة الكاستيلو، فقد خيم شبح إحكام الحصار على مدينة حلب واشتدّ القصف الهستيري على الأحياء الآمنة، قبّل جبينها وأوصاها بالأولاد “على غير العادة” وغادر.
تصف سلمى تلك اللحظات والحرقة تخنق صدرها لترتجم دموعا تغرق وجنتيها الورديتين، فلا أصعب على المحب من لحظات الوداع الغامض، المثقل بألف سؤال وحيرة، ياترى هل سيعود سالما، وهل سنتناول طعام العشاء معاً كما كل ليلة، ويقبل طفليه قبل أن يناما، ونغفو على وسادتنا معاً.
لم تستطع سلمى يومها الذهاب إلى المنزل فالإصابات كثيرة والمشفى ممتلئ بالجرحى، مرت الساعات ولم يعد ثائر بعد، ولاحيلة لها سوى الدموع والدعاء، وهي تؤدي واجبها في إسعاف الجرحى.
بعد ساعات توقف القصف وهدأت سيارات الإسعاف، توسّد المسعفون أروقة المشفى خائري القوى بعد يومٍ دامٍ، لمحت سلمى بأول الرواق صديق زوجها متقدماً نحوها، ليخبرها أصعب عبارةٍ سمعتها في حياتها.. ثائر استشهد.
“يا إله السموات والأرض، أحقاً مات ثائر، أحقاً لم أعد أراه، من سيملأ المنزل ضجيجاً باللعب مع أبنائه، من سيحميني عندما تسقط القذائف وأشعر بالذعر، ماحياتي بدون ثائر، ماقيمة وجودي بدونه” لتسقط مغشياً عليها.
سلمى الآن في الشمال السوري، في ريف إدلب ، بعد أن كابدت ماكابدته من مشقة الحصارٍ والتهجير عن مدينة الحب حلب، كما وصفتها، تناضل لتكمل حلم زوجها بالاستمرار في هذه الثورة المباركة، تعمل في إحدى المراكز الطبية، تنتظر إحدى الأملين، إما النصر الذي طالما حلم به ثائر معها، وإما الشهادة لتلتقيه في الجنة.
أمثال سلمى وثائر كثيرون في هذه الحرب الطاحنة، فلم تبق عائلة في سوريا إلا واكتوت بنار الفقد والألم والفراق، فمتى ينفض السوريون الآلام عن قلوبهم ويكملوا حياتهم بحب وسلام..
قصة خبرية / إيمان عمر هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع