أنقرة- تثير مسألة توجه اليونان نحو تطبيع العلاقات الدبلوماسية مجددا مع سوريا، انزعاج تركيا التي تدرك أن خطوة أثينا تدخل في إطار بناء تكتلات وتحالفات إقليمية جديدة لمواجهة التحركات التركية في البحر الأبيض المتوسط.
وتدعمت المخاوف التركية من هذا التطبيع في علاقات أثينا بدمشق منذ أن أقدمت اليونان، منذ شهر مايو الماضي بتعيين السفيرة السابقة تاسيا أثاناسيو مبعوثة خاصة إلى سوريا بهدف بناء تحالف يوناني سوري لمواجهة الأطماع التركية شرق المتوسط.
ويرى مراقبون أن هذه الخطوة تأتي في وقت تأزمت فيه العلاقات التركية – اليونانية بشكل لافت بسبب التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط تحمل دلالات سياسية كبرى، خاصة أن أثاناسيو كانت سفيرة لليونان في دمشق من 2009 إلى 2012.
ويجمع عدد من المراقبين على أن هذه المسألة السياسية كانت ضمن خطوات وأدوات ضغط عديدة تستعملها أثينا للحد من تحركات تركيا في المنطقة.
وأتت مثل هذه التحركات أكلها في المنظور القريب، حيث رحبت أثينا الأربعاء بقرار أنقرة تعليق أنشطة تنقيب سفينة “أوروج ريّس”، التركية في شرق المتوسط لمدة زمنية، تمهيدا لاستئناف حوار مع اليونان، واصفه القرار بـ”التطور الإيجابي”.
وقال المتحدث باسم الحكومة اليونانية، ستيليو بيتاس حول الحوار المحتمل بين بلاده وتركيا لحل مشاكل تحديد الجرف القاري والصلاحيات البحرية بين البلدين “قد تكون هذه المباحثات على شكل لقاءات استكشافية التي توقفت في السابق، لكن بالطبع لا يمكن أن تكون مع التهديدات وفرض أمر الواقع”.
ووصف بيتاس القرار التركي بـ”التطور الإيجابي”، مؤكداً أن أثينا ترغب ببقاء قنوات الاتصال مفتوحة من أجل تحديد الصلاحيات البحرية بين البلدين.
وبشأن التوجه نحو إعادة ترميم العلاقات السورية اليونانية يصف المراقبون، هذه الخطوة بالتاريخية والاستراتيجية وأنها خطوة قد تجعل من إعادة فتح السفارة اليونانية في العاصمة دمشق مسألة وقت لا أكثر ولا أقل.
وعلاوة على أنها شغلت منصب سفيرة اليونان في سوريا، فإن أهمية أثاناسيو تكمن في كونها تقلدت أيضا في السابق منصب سفيرة لدى روسيا الحليف الرئيسي لنظام بشار الأسد في سوريا.
وتشمل مهمة أثاناسيو اتصالات مع الجانب السوري حول الجوانب الدولية والأعمال الإنسانية، وتنسيق الإجراءات في إعادة الإعمار، بعدما تم تعليق العلاقات الدبلوماسية بين سوريا واليونان في عام 2012 بأوامر من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
ويقول بول إيدن الكاتب بموقع أحوال تركية، “بأن هذه الخطوة تؤثر على أهداف تركيا الاستراتيجية في شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط، لذلك بدأت اليونان بإعادة ترميم علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا. ففي مايو، عينت تاسيا أثاناسيو مبعوثتها الخاصة إلى دمشق. وقد كانت أثاناسيو آخر سفيرة يونانية في سوريا قبل أن تقطع أثينا العلاقات الدبلوماسية مع دمشق في 2012 مع بداية الحرب الأهلية هناك”.
وتأتي تحركات اليونان مدفوعة برغبة في تقويض أهداف تركيا في المنطقة. ففي الماضي، حاولت أثينا تشكيل تحالفات واسعة مع مجموعة متنوعة من البلدان المعارضة لجارتها.
وعلى سبيل المثال، وفي سنة 1996، أعلن وزير الدفاع اليوناني آنذاك غيراسيموس أرسينيس عن توقيع بلاده على اتفاقية تعاون عسكري مع سوريا مع تصوير تركيا كمنافسها الرئيسي. كما دعا إلى تشكيل تحالف مناهض لتركيا، مقترحا أن يشمل دولا مثل إيران والعراق وأرمينيا. ولكن هذا لم يحدث.
من جهة أخرى، وصف محلل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معد ستراتفور الأميركي، ريان بوهل، نية اليونان في فتح قنوات اتصال مع سوريا بأنها “خطوة رمزية خلال هذه الفترة”. وقال إن “اليونان غير قادرة، بصفتها عضوة في حلف شمال الأطلسي وحليفة للولايات المتحدة، على القيام بأكثر من محاولة رمزية لإعادة سوريا إلى المجتمع الدولي”. وإذا كانت ستشارك في أي تحركات عسكرية أو اقتصادية، فستواجه العقوبات الأميركية بموجب “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين”، والعقوبات التي تفرضها الدول الأوروبية.
وقال بوهل إن اليونان لن تستطيع إلا أن تشير إلى دعمها لسوريا في إطار محدود النطاق. ويرى أنها تحاول اتباع بعض “الخطوات المناهضة لتركيا” عبر سوريا بتشكيل تحالف رمزي ضد تركيا لإخبار أنقرة أن تحركاتها العدوانية في جميع أنحاء شرق البحر المتوسط تخلق تحالفا طويل الأمد ضدها. وتريد أثينا أن تعتقد تركيا بأنها لن تقتصر في تحركاتها المستقبلية على “خطة بلا أنياب”.
كما أشار بوهل إلى أن تحركات تركيا في المنطقة في السنوات الأخيرة هي التي ألهمت تحالف القوى الناعمة ضدها، مع اتحاد دول مختلفة لم تشترك سوى في معارضتها لسياسات أنقرة. وقال: “حتى الآن ، لم يتخذ اللاعبون الرئيسيون مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة خطوات فعّالة لفرض عقوبات فعلية على تركيا نتيجة لسلوكها. وإلى أن يتخذ لاعب رئيسي هذا القرار، ستبقى هذه الخطوات رمزية”.
ولا يعتقد جورج تزوغوبولوس، وهو باحث يوناني كبير في المركز الدولي للدراسات الأوروبية، أن تعيين أثاناسيو في دمشق “طموح جدا” من منظور السياسة الخارجية. وأشار في حديثه إلى موقع أحوال تركية إلى أن “الظروف تختلف اليوم مقارنة بالسنوات التي كان فيها غيراسيموس أرسينيس وزيرا للدفاع. فعلى سبيل المثال، تبقى العلاقات اليونانية الإسرائيلية ممتازة في حين أن العلاقات التركية الإسرائيلية متوترة”.
كما أن العلاقات التي تجمع تركيا مع العراق وإيران بناءة. لذلك، لا يرى تزوغوبولوس كيفية تطبيق فكرة أرسينيس في 2020. فعلى النقيض من ذلك، واجهت العلاقات بين اليونان وإيران تحديات في بداية السنة الحالية عندما قررت الحكومة اليونانية إرسال صواريخ باتريوت إلى السعودية ضمن برنامج مشترك مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
وأرسلت اليونان الأنظمة لمساعدة المملكة على تعزيز دفاعاتها الجوية بعد الضربات الصاروخية والطائرات المسيرة المشتركة التي يُعتقد بأن إيران نفذتها في سبتمبر 2019 لتعطيل منشآت النفط السعودية.
لكن تزوغوبولوس يعتقد أن قرار اليونان بتعيين تاسيا أثاناسيو في دمشق كان صحيحا. وقال إنه يظهر أنّ الدولة تتابع التطورات عن كثب وتهتم بأن تصبح أكثر نشاطا في منطقة البحر المتوسط دبلوماسيا بعد انتكاسة مذكرة التفاهم التي وقعتها أنقرة وطرابلس بشأن المناطق البحرية في نوفمبر لإنشاء منطقة اقتصادية خالصة تمتد من ساحل تركيا الجنوبي على البحر المتوسط إلى الساحل الشمالي الشرقي الليبي مع تجاهل عوامل مثل وجود جزيرة كريت اليونانية.
وقال تزوغوبولوس “حتى قبل هذا التعيين، دعم وزير الخارجية نيكوس دندياس جهود الأمم المتحدة لدعم الحل السياسي في سوريا علنا. وجعل غياب أي تمثيل يوناني في ليبيا أثينا تحرص على تجنب أخطائها السابقة بمحاولة لعب دور في سوريا”. وأشار إلى أن أثينا ستحتاج إلى النظر في كيفية تأثير تحسين العلاقات مع دمشق على علاقاتها مع روسيا.
وقال “أعتبرها فرصة جيدة لتحسين العلاقات اليونانية الروسية. لكن وضع العلاقات اليونانية الأميركية الممتاز لا يعني استحالة تعاون اليونان وروسيا”.
أما اقتصاديا، فقد اقترح تزوغوبولوس أن تلعب الشركات اليونانية دورا في إعادة إعمار سوريا في مسعى “ستقوده روسيا بالتأكيد”. ولا يعتقد أن العلاقات اليونانية التركية “ستتأثر إلى حد كبير” بالتقارب بين أثينا ودمشق. ومع ذلك، قد تكون رؤية تركيا لليونان في سوريا بعد عقد من الغياب سببا للقلق الدبلوماسي. وتابع “علينا أن ننتظر ونرى إذا كانت اليونان ستقرر إعادة فتح سفارتها في دمشق.. لم نصل إلى تلك المرحلة بعد”.
نقلا عن صحيفة العرب