بجانب نافذة الشرفة المطلة على حديقة المنزل تناثرت حبات الندى على أزهار النرجس والياسمين الأبيض، لتلامس أصابع سلمى من بلدة الهبيط بريف إدلب، وريقات الورود وتداعب نسمات الهواء الناعمة وجنتيها الورديتين.
نظرت سلمى إلي وبالكاد نطقت “من وقت الي اتصلت ماما فيني وخبرتني إنها جاي بعد أسبوع قلبي طار من الفرحة”. صمتت سلمى واغرورقت عيناها البنيتان بالدموع وتنهدت حزينة وتحول المكان إلى ساحة ذكريات راودت سلمى قبل لقائها الأخير بأمها بداية عام 2018 في بلدة الهبيط بريف إدلب الجنوبي.
أكملت سلمى روايتها تائهة بنظراتها المتعبة “بعد ماحكاتني ماما كانت الفرحة مو وسعانتني وبديت بالتحضير بكل فرح وجهزت كل شي مشان نستقبلها.. أكيد كل شي لازم يكون حلو وبجنن وخصوصا وهي جاية من الحج الي حلمت فيه كتير”.
حاولت سلمى أن تبقى على سجيتها كي لا ألحظ تلك المعركة التي تدور بين قلبها وعقلها وتترجمها رعشة يديها وتسارع دقات قلبها وضيق نفسها، وتابعت تروي تفاصيل الحادثة “وصلت الماما عالضيعة لابسة الأبيض الي كتير حلمت مشان تلبسو هيي وجاي من الحج، بس بس كان أبيض ملون بأحمر كتير”، ثم تنهدت واستسلمت عيناها للدموع، وكلماتي لمواساتها التي تحدثت بها كلها لم تعد تكفي، ففراقها لأمها آلم وجدانها وترك ندبا لا يزول أثره.
توفيت أم سلمى مع عدد من الأهالي بقصف جوي للطيران الروسي قرب مدينة معرة النعمان أثناء عودتها إلى حيث مكان نزوحها في بلدة الهبيط حيث تنتظرها سلمى وأقاربها بفرح وشوق.
استجمعت سلمى قواها وأزاحت خصلات شعرها الطويل عن وجهها الرفيع ثم قالت” وقت ودعت الماما ماعاد عندي قدرة عالمقاومة وكأني بدوامة كبيرة لوحدي واستسلمت لأني الحياة بدون الماما سودا ومابتنطاق”.
ضمت سلمى صورة والدتها إلى صدرها وهي تروي لحظات فرح وحزن وخوف جمعتها بأمها، فصورتها الملتقطة وطيف ذكراها والحديث عنها أشياء كفيلة جعلت سلمى تدخل في نوبة حزن عميقة وزرعت فيها ذكريات ألم وفرح تستذكرها لآخر عمرها.
مرت الأيام والشهور بعد وداع سلمى الأخير لأمها، حتى قرر والد سلمى النزوح من البلدة أواخر عام 2019 بعد نزوح أهلها جميعا وتقدم قوات النظام باتجاه البلدة قاصدا الريف الشمالي لسوريا، وهناك أكملت سلمى دراستها الثانوية وحققت حلم والدتها بدخول كلية التربية التي طالما حلمت بأن تكون سلمى معلمة مثلها.
كم من أمهات تمنين أن يشاهدن أولادهن من أوائل الطلاب وفي أفضل الجامعات، وكم من أبناء تمنوا أن يحققوا حلمهم وحلم أهلهم لكن قصف النظام الذي قتل آلاف الأبرياء حطم حلم أجيال بأكملها في التعليم والحياة والنجاح.