بينما غيّبت أجواء ما قبل الإنتخابات الرئاسية الأميركية و”كورونا” التغريدات المثيرة للجدل للرئيس دونالد ترامب، رداً على وقائع الأحداث في منطقتنا العربية، بدا صوت الرئيس السوري، بشار الأسد، حاضراً لإعلان مواقف حادّة، ليس فقط تجاه ما تم تداوله عن رغبة ترامب في قتله، ولكن ضمناً عن مجمل الاتفاقات الدولية التي عقدها حلفاؤه، وغيبته طرفا، بينما ناقشته باعتباره موضوعا، وقسمت بلاده بوصفها غنيمة. وفي وقتٍ بدا الأسد فيه مستاءً من الإتفاقات الروسية – التركية غير الفعالة، وقلّل من أهمية مسار جنيف، واصفاً إياه “باللعبة”، إلا أنه وعلى الرغم من محاولاته ردّ أزمات سورية الاقتصادية إلى عوامل خارجية، في مقدمتها عقوبات قانون قيصر الأميركي، متجاهلاً سببها الرئيسي، وهو خيار الحرب على الشعب السوري المطالب بالحرية، فهو لم يخفِ في ردوده حاجة البلاد إلى عملية إصلاحية “ينبغي علينا القيام بها”. أي أن الأسد، في حديثه لوكالة أنباء نوفوستي الحكومية الروسية، يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، يعرف حدّة الإنهيار الإقتصادي الذي يعاني منه الشعب السوري، ويعرف بالتالي أنه وصل إلى النقطة التي وضعها هدفا له من خلال حرب طويلة، وحصار مدن السوريين وتجويعهم وتدمير إمكاناتهم، وصولاً إلى سلب قدرتهم على الإستمرار بمطالب الحرية والحياة الكريمة، مقابل فتات الخبز الذي أصبح تأمينه بمثابة انتصار لإرادة الحياة على الجوع.
لا يمكن إنكار أن الأسد قارئ ومستثمر جيد لمآلات سياساته في إدارة الصراع مع معارضيه، ومع خصومه الخارجيين. وفي الآن نفسه، يعرف كيف يستثمر في طموحات حلفائه وأطماعهم، وهو لا يمشي خبط عشواء، كما يحلو لنا نحن معارضيه أن نصفه، فتلك السياسات أبقته في منصبه الذي كان منذ ما قبل توليه له، أي منذ تولي الأسد الأب الحكم قبل خمسة عقود، الهدف الحقيقي للنظام. واستمر في نجاحاته عاما بعد آخر، وأزمةً تلو اغتيال، ونحن نعد عليه عثراته التي خطّط لها، واستخدم أقصى ما لديه لتنفيذها، بل ونخترع القصص والحكايات عن خلافاته مع داعميه، ونضع سيناريوهات النهايات السعيدة لنا على طريقة حكايات الجدّات التي تنهي الصواعق فيها على الأشرار، وينقذ مصباح علاء الدين الأخيار.
الأسد ومن منصة حكومية روسية يخالف كل ادّعاءات الحلول السياسية المتوقعة، والسيناريوهات المتداولة، ويسمّي الأشياء بمسمّياتها “جنيف لعبة سياسية، والدستور هو آخر ما يفكّر فيه المواطن السوري، والاتفاقات الروسية – التركية غير فعّالة، وما يحدث في الشمال في مناطق حلب وإدلب أعمال قتالية”. يعني لا سلام ولا وقف إطلاق نار ولا حلول سياسية، وهو بذلك يردّ على روسيا قبل غيرها، لنزع مصداقية تصريحاتها، ومن على صفحات إعلامها، ويغازل بطريقة مواربة إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة، أن السلام مع إسرائيل ممكن، ولكن عبر صفقةٍ سياسيةٍ معه، وليست مع غيره.
هل هذه رسالة إلى روسيا لمنعها من تعهدات مستقبلية، أم رسالة إلى الولايات المتحدة أن القرار لا يزال سورياً في هذه القضية تحديداً، وأن باب المزايدات مفتوح؟ كانت التصريحات السورية ولا تزال ضد السلوك الأميركي حاضرةً في كل وقت، على الرغم من أن الموقف الأميركي من الثورة السورية تغير وتبدل، من دافع إلى مزيد من النقمة الشعبية على النظام إلى عدم الوضوح، والإفتقاد إلى الحسم، وترك الصراع الجاري في سورية للقوى الأخرى، أي روسيا وإيران وتركيا وبعض الدول العربية، إما تعبيرا عن اللامبالاة، باعتبار أن سورية لم تكن يوما في دائرة النفوذ الأميركي المباشر، أو لتوريط هذه الأطراف في هذا البلد، ما يطيل أمد الصراع، ويزيده تعقيداً، الأمر الذي دفع السوريون ثمنه باهظاً، وهو ما حصل. استراتيجية اللامبالاة التي كان البيت الأبيض قد اعتمدها في عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، وتمثلت بالحفاظ على ديمومة الصراع في واقعٍ لا غالب فيه ولا مغلوب، لا من جهة المعارضة ولا من جهة النظام، هي ذاتها في عهد ترامب، وستبقى بقي ترامب رئيسا أم خالفه الحظ، وهي التي تشجع النظام السوري اليوم على رفع صوته، حتى في وجه حلفائه، لتوسيع مكان له على طاولة مفاوضاتهم. لهذا، ما يأخذه الروس عليه من تمادٍ في تجاهل الإستحقاقات التي يفرضها الحل الروسي للصراع في سورية، والتي قدّمتها موسكو عبر وعود واتفاقات مع الدول، هو تماد له توقيت سياسي ورسائل خارجية، وأيد مفتوحة للسلام مع أي “عدو” لها، مهما كانت مسمّياته، من إسرائيل حتى الولايات المتحدة إلى تركيا، باستثناء الشعب السوري.
أنهى الأسد بتصريحاته محاولات المعارضة الرقص على كلمات التشجيع الروسي، وأن الحلول السياسية التي يتوهمونها، ورافقت وفودهم إلى موسكو وآستانة وسوتشي، تمكن صناعتها في مسار آستانة لتمريرها في قاعات جنيف، فحيث قلّل من أهمية اتفاقات آستانة هزئ، في الوقت نفسه، من استحقاقات جنيف، وأعاد تمرير برنامجه الانتخابي “الإصلاحي” الذي وعد به السوريين عام 2000 في خطاب القسم، وثم كرّره عام 2007، وإذا كان قد تجاهله عام 2014، لأنه اعتمد على خطاب الحرب، فهو اليوم يعود إليه ليؤكّد انتصاره لحاضنته الشعبية، والتفاتته إلى الوضع الداخلي، في وقتٍ تتشتت فيه قيادات المعارضة بين داعميها المتحاربين داخل سورية وخارجها، وتتجاهل هذه “القيادات” حتى تمثيل اهتمامها بمآلات السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وهي تغرق بالتساوي تحت خط الفقر، وتشتعل بنيران أسعار الغلاء، ما يجعل سوريين كثيرين على الطرف الآخر من الصراع ليس فقط غير مهتمين بالدستور، بل ويسحبون ثقتهم من كل من يشارك بصناعته المغشوشة.
نقلا عن العربي الجديد