وأفادت مصادر فلسطينية بأن مستوطنين اقتحموا وحرقوا مرافق مسجد في مدينة البيرة، وخطوا شعارات عنصرية على جدرانه، وإحدى العبارات كانت “حصار للعرب وليس لليهود”، كما جاء في عبارة أخرى “أرض إسرائيل لشعب إسرائيل”. وأضرمت النيران في أجزاء من المسجد، وهرع الأهالي وأخمدوها، ووصلت طواقم الإطفاء إلى المكان، لاستكمال عملية إخماد النيران بالكامل حتى لا تأتي على المسجد بأكمله.
ووصفت وزارة الأوقاف الفلسطينية الحادث بأنه “جريمة عنصرية” وحملت حكومة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن هذه الجريمة. وسبق أن وُجهت أصابع الاتهام في حوادث مماثلة إلى جماعة “تدفيع الثمن” المؤلفة من نشطاء في تيار اليمين المتطرف الإسرائيلي ومستوطنين متطرفين يعتمدون منذ سنوات عمليات انتقامية ويعتدون على مصالح فلسطينية.
جماعة “تدفيع الثمن” مؤلفة من نشطاء في تيار اليمين المتطرف الإسرائيلي ومستوطنين متطرفين يعتمدون منذ سنوات عمليات انتقامية
وتستهدف جماعة “تدفيع الثمن” تخريب وتدمير ممتلكات الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر وإحراق سيارات ودور عبادة مسيحية وإسلامية وإتلاف أو اقتلاع أشجار زيتون. وشهد العام الحالي أربع جرائم مماثلة نفذتها عصابات الإجرام اليهودية منها في قرية الجش في الجليل وبيت حنينا في قضاء القدس.
التطرف الإسرائيلي
ويظهر تصاعد جرائم الكراهية المعروفة بـ“تدفيع الثمن” من ناحيتي الكم والخطورة على انفلات حالة التطرف الديني والقومي في كل إسرائيل وهي ظاهرة لا تنحصر بتمادي المستوطنين فحسب. وقد ظهرت عصابات “تدفيع الثمن” للمرة الأولى في 2008 ونفذت جرائمها لردع قوات الاحتلال من إخلاء بؤر استيطانية، وفي 2013 انتقلت للمساس بالمساجد والكنائس على طرفي الخط الأخضر وللمساس بالفلسطينيين جسديا.
وتعكس ظاهرة “تدفيع الثمن” التي توصفها بعض الأوساط الإسرائيلية أيضا بـ”النازيين الجدد” حالة التطرف القومي والديني في الشارع الإسرائيلي وحالة التمادي لدى المستوطنين الذين يعدون نحو نصف مليون نسمة ويقيمون في نحو 130 مستوطنة. وينبع هذا التمادي من بيئة تزداد تشددا وكراهية وعنصرية تتفشى داخل إسرائيل كلها نتيجة عوامل كثيرة، منها تغيير مناهج التعليم منذ اعتلاء اليمين سدة الحكم في 1977 وهجرة مليون من يهود الاتحاد السوفييتي بعد انهياره مطلع التسعينيات. علاوة على اتفاق أوسلو عام 1993 وفكرة تقاسم البلاد التي غذت حالة التطرف وأججت الكراهية للفلسطينيين لدى المستوطنين ومعسكر اليمين ودفعته لقتل رئيس الحكومة، إسحق رابين، عام 1995.
وردا على سؤال “القدس العربي” يوضح دكتور مهند مصطفى الباحث في الشؤون الإسرائيلية مدير عام مركز “مدى الكرمل” في حيفا أن فشل إسرائيل في تحقيق انتصارات حادة وسريعة على الفلسطينيين والعرب في العقود الثلاثة الأخيرة، واتساع هواجس الديموغرافيا، قد زاد حالة الخوف والكراهية والتطرف، ناهيك عن عمليات الشيطنة والتحريض الرسمي في السياسة والإعلام والأخطر في المدارس الدينية وحلقات الحاخامات ممن يحيون عقيدة الحاخام الراحل من أصل أمريكي مئير كهانا القائمة على كراهية العرب والاعتداء الدموي عليهم. ويتابع: “لذا ليس صدفة أن يكون الإسرائيلي الأول الذي خضع قبل أيام للاعتقال الإداري لستة شهور هو حفيد كهانا، الشاب المستوطن المتطرف مئير ايتينجر”.
دولة “يهودية”
ويستدل من وثائق ضبطتها أجهزة الأمن الإسرائيلية أن عصابات “تدفيع الثمن” باتت تقاد من قبل مستوطنين شباب فوضويين لا يحترمون قانونا ولا ينصاعون لسلطة حاخام، وسبق للإعلام الإسرائيلي أن نعتهم بوصف رومانسي “شبيبة التلال”. وحسب الأجهزة الأمنية تخطط عصابات “تدفيع الثمن” لجرائم قتل بشعة بحق الفلسطينيين من أجل تقويض الاستقرار وإشعال انتفاضة ثالثة.
وتقدر أجهزة الأمن الإسرائيلية أن عصابة من عشرات غلاة المستوطنين في العشرينيات من أعمارهم تقف خلف الجرائم بحق الفلسطينيين ولم تعد تكتفي بحرق مقدساتهم ليس من أجل الانتقام لإخلاء بؤر استيطانية بل بغية تقويض استقرار الحكم تمهيدا لبناء دولة شريعة يهودية. وفي واحدة من هذه الوثائق السرية يتضح أن عصابات تدفيع الثمن “يرون أن إسرائيل تقوم على أسس ضعيفة جدرانها متداعية ولا حق لها بالوجود ومن الأفضل هدمها وإعادة بنائها من جديد بدلا من ترميمها”.
يعتقد قادة “تدفيع الثمن” أن نقاط ضعف كثيرة تعتري الكيان الإسرائيلي وأن الحل يكمن بإحراق كافة براميل البارود حتى يضطر اليهود للخيار بين التمرد على إسرائيل العلمانية الشهوانية وبين قمعها أو الوقوف على الحياد. وتستعرض الوثيقة براميل البارود الخمسة: عدم الانصياع لتعليمات الأجهزة السلطوية وعدم الاعتراف بالمحاكم، وإثارة الشغب في الحرم القدسي الشريف وإغلاق مداخله وانتهاكه، ومظاهرات ضد الكنائس والمطالبة بتدميرها، ومناهضة السفارات الأجنبية، وإثارة العرب في إسرائيل بمن فيهم الدروز والبدو والفرض الديني على الحيز العام. ويعتقد هؤلاء أن كل ذلك سيقود لتحقيق الرؤية: تأسيس مملكة إسرائيلية واتباع الشريعة اليهودية وطرد كل من هو غير يهودي والأهم بناء الهيكل الثالث.
دور الحاخامات
وخلافا للماضي فان أصحاب هذه الأيديولوجية لا يحافظون على تواصل مع الحاخامات، ولا يرون أنفسهم بحاجة إلى فتاواهم لتبرير أعمالهم بل إنهم يعتبرون الحاخامات الذين اعتبروا متطرفين في السابق، بمثابة حاخامات متساهلين جدا. كما يؤكدون الحاجة إلى إظهار المناعة النفسية، في العمل، وخلال التحقيق، بل يرفضون بشدة أي محاولة لتطبيق صلاحيات خارجية عليهم.
وفي مستوطنة “يتسهار” تنشط أكثر جماعات المستوطنين تطرفا وما زالت تسوق وتمجد كتاب “الفتاوى عقيدة الملك” التي تبيح قتل الأغيار استنادا لتفسيرات العهد القديم ومصادر التشريع اليهودي. وكان الكتاب صدر عن حاخامين يقيمان في مستوطنة “يتسهار”، يتسحاق شبيرا، رئيس المدرسة اليهودية “يوسف ما زال حيا”، وزميله الحاخام يوسي إيليتسور، وهو يعج بتبريرات قتل الأغيار وما زال هذا الكتاب يشكل قدوة ومصدرا ملهما لهؤلاء المستوطنين كما يؤكد مهند مصطفى.
ويشير الصحافي في “هآرتس” و الإذاعة العبرية الباحث في شؤون المستوطنين حاييم ليفنسون إلى أن هؤلاء المتشددين يعملون بسرية كاملة ضمن خلايا صغيرة لا صلة تنظيمية بينها. ويؤكد أن هؤلاء الذين يقدر عددهم بالعشرات ويصعدون نشاطهم الإجرامي نموا وترعرعوا على فتاوى وتصريحات خطيرة ضد الفلسطينيين حتى خرج المارد من القمقم وفقدت سلطات الأمن السيطرة عليهم، كما ينعكس بتحريض دموي من قبلهم على رئيس إسرائيل رؤوفين ريفلين منذ سجل استنكاره جريمة قتل عائلة دوابشة في قرية دوما.
برميل بارود
ويقول ليفنسون إن المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة ينتمون لعشرات المدارس الدينية المتفاوتة بتطرفها لكن “حلم أرض إسرائيل الكاملة” هو المشترك. ويزعم أن أجهزة الأمن تعرف الكثير عنهم لكنها تواجه صعوبة في توفير أدلة قضائية تدينهم في المحكمة خاصة أنهم يمارسون الحق بالصمت خلال التحقيق معهم، مشددا على أنه “دون التعامل معهم كتنظيم إرهابي لا يمكن مكافحتهم”.
وهذا ما يؤكده الحاخام إلياهو كاوفمان المعادي للصهيونية أن القائمين على الرؤى المتطرفة منفصلون عن الحاخامات ويعتبرونهم “معتدلين” ويرفضون أي وصاية خارجية عليهم. ويوضح كاوفمان في مقال نشره على صفحته في فيسبوك أن هؤلاء الإرهابيين اليهود الجدد بخلاف إرهابيين سابقين يتطلعون للقيام بجرائم بشعة من شأنها أن تشعل “برميل بارود” كالمساس بالمسجد الأقصى محذرا من عدم التعاطي بجدية مع تهديداتهم وعقيدتهم.
صمت إسرائيلي
ومقابل عصابات “تدفيع الثمن” (تاغ محير) الإرهابية، تنشط منظمة “تاغ مئير” اليهودية المناوئة للمنظمة الإجرامية المذكورة وهي تعمل منذ تأسست قبل 12 عاما لمناهضة الاعتداءات على مقدسات ومقدرات الفلسطينيين. وأوضحت منظمة “تاغ مئير” أن عصابات “تدفيع الثمن” ارتكبت بين 8 إلى 10 اعتداءات كل سنة، وفي السنوات الأخيرة تراجع معدلها بشكل ملحوظ لكن في العام المنصرم تم تسجيل عدد مضاعف من الاعتداءات في 2018 وثلاثة أضعاف عما شهدته سنة 2017 أو 2016. كما في الحالات السابقة تجاهلت حكومة الاحتلال جريمة الكراهية هذه رغم خطورتها وفي المقابل فإنها تخرج بتصريحات كثيرة حينما يمس فلسطيني أي هدف يهودي وإن كان محدودا وتافها.
نقلا عن القدس العربي