في مخيّمات الشّمال، يكتظُّ المكان بالنّازحين، وتلقي الحياة بثقلها على أولئك المُتعبين من الحرب والتّهجير والفقر، وينيخُ عليهم البؤسُ بِكَلْكَلِهِ، ويَجْثُم فوق صدورهم، فتزادُ معاناتهم معاناةً، وتزدادُ فاقَتُهم فاقة.
هناك يقطن أكثر من مليوني نازحٍ ومهجّر، بعضهم بات في العراء لأيام وليالٍ؛ يفترش التراب ويلتحف السماء، وآخرون حالفهم الحظُّ قليلا فاتّخذوا من أشجار الزّيتون ملاذا، أمّا الأوفر حظّاً فقد حصلوا على خيمة في إحدى المخيّمات المترامية الأطراف هنا وهناك في الشمال السّوري.
يعاني النازحون صيفا من حرّ الشمس التي تكوي الوجوه وتُلهب القلوب والصّدور، وشتاء من برودة الطّقس، وكثرة الأمطار وقلّة الحيلة.
اقرأ أيضاً:برد الشتاء يقضّ مضاجع أطفال المخيمات
أربعةُ أطفالٍ صغار، لاتتجاوز أعمارهم الحادية عشرة، أجسادهم غضّة، وعظامهم هشّة، غلبهم النّعاس، بعد ليلة شاقة باغتهم فيها المطر فقضَّ مضجعهم، احتار الأهل ماذا يفعلون، وكيف سينام أولئك الصغار، فلا قدرةَ لهم على تحمّل البرد القارس، ولا مأوى لهم يلتجئون إليه.
بعد طول انتظار وحيرة من الأهل قرّر والدهم أن يعيد إعمار قصرهم الفارِه في هذا المخيّم، وحالُهم فيه حال الكثيرين ممن دمّر المطر خيامهم وأغرقها.
استجمعت العائلة قواها، بعد ليلة عصيبة، وجمع والدهم بعضا من الحجارة التي اتّخذها رواقا للخيمة على أمل أن تحميها من دخول المطر إليها، ووضع فوقها بعضا من العوازل البلاستيكية، ليصنع لهم بها سريرا ينامون عليه وسط بركة من طين، هي أشبه بمستنقعٍ يحمل كل خذلان العالم وتقصيرهم مع أولئك النازحين.
لديه بقايا أقمشةٍ اتّخذَ منها وسادة، ثم جعل أطفاله الأربعة ينامون عليها بعد أن غلبهم النعاس والتعب والقهر والألم، ناهيكَ عن البرد الذي أَرْعَدَ فرائِصَهم. أمّا الغطاءُ، فكان عبارة عن “بطّانيّة” مبلّلةٍ بالماء ومزركشةٍ بالوحل. وبعدها غَطّ الأطفالُ في النوم.
ولك أنْ تتخيّل أيّ نومٍ هانئ سينعمون به في هذا القصر المُنيفِ، فوقَ سرير من الحجارة المتراصّةِ فوقَ بعضها بعضا، يحيط به بِرْكةٍ من طين.!!
ربّما أمضى الوالد تلك الليلة وعينه ساهرة تحرس فلذات كبده، خوفا عليهم من السّقوط في تلك البركة الموحلة التي تحيط بذلك السرير الحجري.
تُرى، ما حجم ذاك التّعب الذي شعر به أولئك الأطفال الصّغار حتى استطاعوا أن يغفو ويناموا فوق كومة من الحجار، كومةٍ يعجز الرجل الكبير النوم عليها دون أن تؤثّر على ظهره، وجوانبه؟.
ولنا أنْ نتخيّل حالهم بعد أنْ انقشع ظلام الليل وأسفرَ نور الصباح، فيستيقظون ليجدوا أنفسهم محاطين بحفرة مليئة بالماء والطين، قد حالت بينهم وبين الوصول إلى باب تلك الخيمة الغارقة بالمطر والوحل. حالها حال تلك العقبات التي تحول بينهم وبين الوصول إلى أحلامهم وأمانيهم. فعليهم أنْ يتخطّوا هذه البركة ليصلوا إلى الباب، وأنْ يتخطّوا الصّعاب ليحقّقوا ما يتمنّون.
لايقتصر الأمر على هذه العائلة وحسب، فهناك الآلاف من الخيام التي كان مصيرها الغرق بمياة الأمطار، أو الهدم بفعل تراكم الثلوج في ظلّ العاصفة التي اجتاحت الشمال السوري في الأيام الماضية.
فأينَ نحن منهم ومِنْ صبرِهم؟ وأينَ معاناتُنا مِن معاناتِهم؟
مَنِ المسؤولُ عن المآل الذي صاروا إليه؟
كيفَ لنا أن نشكو بردا ونحن نقطن البيوت ونمتلك الوقود؟!
كيف لنا أن نشكو فاقة أو عوزا للّباس أو طعام أو شراب، وأولئك النازحون يفتقرون إلى أدنى مقوّمات الحياة الكريمة؟!
كان الله في عونهم، وفرّج عنهم، وآنسَهم.
ظلال عبود
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع