لندن- “القدس العربي”:
تساءل مراسل الشؤون الدولية في صحيفة “الغارديان” جوليان بورغر عن السبب الذي تراجعت فيه شهية العالم لملاحقة مجرمي الحرب في سوريا واليمن وميانمار.
وقال في الذكرى الخامسة والعشرين على مذبحة سربرينتشا إن محكمة جرائم الحرب الدولية حاكمت راتكو ميلاديتش المسؤول عن المذبحة ولكن ماذا عن الجرائم ضد الإنسانية في أماكن أخرى من العالم؟
وقال إن ميلاديتش الذي أدين بالمسؤولية عن قتل 8.000 رجل وطفل في سربرينتشا سيقضي الذكرى الخامسة والعشرين للمجزرة في زنزانته بهيغ حيث يقيم منذ تسعة أعوام. ولكن ما جرى منذ المذبحة هذه أن العالم بات متعودا على الجرائم. ولم يعد القتل الجماعي في اليمن وسوريا محط اهتمام الأخبار.
وعندما قامت الصين بسجن مليون مسلم من الإيغور وأجبرت النساء المسلمات على تناول حبوب منع الحمل أو الإجهاض لم يتحرك أحد. وعندما يتعلق الأمر بجرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية فهناك لميلاديتش رفاق كثر. وما يجعل حالته مهمة واستثنائية هي أنه لوحق واعتقل وقدم للعدالة.
وقبل ثلاثة أعوام أدين ميلاديتش بارتكاب الإبادة في سربرينتشا والتي قتل فيها الأطفال والرجال في منطقة اعتبرت من مناطق الأمم المتحدة الآمنة حيث أعدموا رميا بالرصاص في مواقع متفرقة من شمال- شرق البوسنة. وأدانته محاكم الحرب الدولية ليوغوسلافيا السابق بخمس جرائم ضد الإنسانية وأربع جرائم تطهير عرقي وقصف العاصمة سراييفو واختطاف قوات حفظ السلام.
وتسابق دائرة الاستئنافات في المحكمة الوقت مع المدان البالغ من العمر 77 عاما والمعتل صحيا لكي تنتهي من الإجراءات قبل موته. وتمت إدانة تسعة من الضباط والمسؤولين من صرب البوسنة، ومنهم الزعيم الانفصالي الصربي البوسنوي رادوفان كاراديتش.
وأصدرت المحكمة الدولية لجرائم الحرب أحكاما عليهم تصل مدتها إلى 90 عاما. أما المحكمة الأخرى المخصصة لرواندا فقد أدانت 93 شخصا مسؤولا عن مذابح عام 1994. وكانت محكمة جرائم الحرب لكل من يوغوسلافيا السابقة ورواندا أولى محكمتين تعقدان منذ محاكم نيورمبرغ وطوكيو. وعكستا إرادة المجتمع الدولي عقب نهاية الحرب الباردة من أجل وقف المذابح الجماعية.
وعاد قسم “لن يحدث أبدا” الذي ردد بعد الهولوكوست وتم تداوله بكثرة. وأنشأت الأمم المتحدة محاكم خاصة أخرى لمحاكمة الجناة في جرائم حرب جماعية في كل من سيراليون وتيمور الشرقية وكذا كمبوديا وتحقيق عدالة متأخرة من الجرائم التي ارتكبها الخمير الحمر. وأنشأ الاتحاد الأوروبي محكمة منفصلة لكوسوفو والتي أصدرت الشهر الماضي لائحة اتهامات ضد الرئيس هاشم تاجي وغيره بجرائم ارتكبوها عندما قاد جيش تحرير كوسوفو.
وستصدر قريبا المحكمة الخاصة التي أنشئت في هيغ للتحقيق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري بانفجار أدى لمقتل 21 شخصا آخر عام 2005، حكما بالجريمة. وفي عام 2002 بدأت محكمة دائمة في الجرائم بالعمل من مقر محكمة الجنايات الدولية في هيغ.
ويقول ديفيد شيفر، السفير الأمريكي لجرائم الحرب من 1997- 2001: “كانت سنوات مثيرة، وهي سنوات أطلق عليها سنوات الكد للمحاكم الجنائية” و”لم يكن لدينا أمثلة سوى نيورنبرغ وطوكيو وقمنا بتقليدهما في التسعينات وظللنا نقوم بتعديلهما”.
وتقول نيرما جيلاستش، اللاجئة البوسنوية التي أصبحت متحدثة باسم محكمة جرائم الحرب ليوغوسلافيا السابقة، إنها كانت تشكل مرحلة جديدة “وما كان مهما بشأنها أن كل المعاناة والموت لم يذهبا هباء. ولأن الدروس ستتعلم وستطبق في المستقبل”.
وأنشأت الأمم المتحدة سلسلة من المحاكم لمعاقبة مجرمي الحرب، ولكنها قامت أيضا بجهود لمنع وقوع الإبادة من خلال مفهوم “مسؤولية الحماية” الذي تم تطويره أعقاب مذابح رواندا والبوسنة وتم تبنيه عام 2005. وأكد هذا المفهوم على ضرورة التدخل الإنساني الدولي حالة فشل الدولة بحماية مواطنيها. وتم استخدامه في قرار مجلس الأمن عام 2011 للتدخل وحماية سكان بنغازي في ليبيا من قوات معمر القذافي.
ولكن مبدأ “مسؤولية الحماية” انتهك عندما قررت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة التحرك وتغيير النظام في ليبيا، فيما اعتبرت روسيا التي امتنعت عن التصويت أنها خدعت وأقسمت أنها لن تقع فريسة خداع أخرى.
وكان مقتل القذافي نهاية التدخل الأجنبي. فقد عاد فلاديمير بوتين للرئاسة بعد عام من التدخل الغربي في ليبيا وقاد بلاده نحو خط صدامي مع الغرب. وتحول الربيع العربي لربيع دموي في سوريا وأصبحت الصين تحت حكم شي جينبنغ أكثر حزما على الساحة الدولية وتم انتخاب دونالد ترامب الذي ينظر باحتقار للمؤسسات الدولية. وكان هذا مناخا غير مرحب بـ”مسؤولية الحماية” في كل من اليمن وسوريا وميانمار.
وقالت جيلاستش: “أصبح الجميع مترددين بعدما حدث في ليبيا” و”ستظل لطخة في ضميرنا أننا سمحنا بما حدث في سوريا. أصبحت المذابح وقتل الناس أمرا عاديا في العشر سنوات الماضية”.
وتعرضت محكمة الجنايات الدولية التي ظلت سلطاتها محدودة لهجوم جديد من إدارة ترامب التي هددت بفرض العقوبات على مسؤوليها وعائلاتهم حالة حققوا في قضايا تتعلق بالولايات المتحدة وحلفائها ارتكبت في أفغانستان أو إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة.
وقال السفير السابق شيفر: “يعتبر هذا هزيمة للذات وقوضت من مصداقيتنا لتحقيق العدالة وحكم القانون ومنع الجرائم في الخارج” فعبارة لن يحدث أبدا بدت فارغة كما تقول إيفا فوكاشتش المؤرخة بجامعة أوتريخت “وبخاصة في سوريا حيث تبدو لي أنها فارغة وأفرغت من معناها”. ولكنها ترى أن محاكم رواندا ويوغوسلافيا الماضية تعطي صورة أن هناك أملا. ذلك أن الباحثين والناشطين يطالبون بالمحاسبة، وبهذا المعنى فلا عودة للوراء.
وكان هجوم ترامب على الجنائية الدولية مدعاة للنقد ومن حلفاء الولايات المتحدة الذين سارعوا للدفاع عنها. وهناك مدع عام جديد يقوم بمراجعة عملياتها لجعلها فاعلة أكثر.
وفي غياب المحكمة الخاصة بسوريا تقوم المحاكم في ألمانيا واسكندنافيا وهولندا بمحاكمة المتورطين من نظام الأسد ضمن مبدأ الصلاحية العامة. ففي نيسان/ إبريل بدأت محكمة في بلدة كوبلينز بمحاكمة مسؤولين سابقين في نظام الأسد انشقا وهربا إلى ألمانيا. وهي جزء من الكثير وربما مئات الحالات تحت النظر. ووجه المركز الدولي للعدالة في جنيف أدلة تدعم المحاكمات.
نقلا عن القدس العربي