منذ نحو نصف قرن تبعت مؤسسات الإعلام في سوريا سياسة تحريرية تجعل العمل الصحفي خادمًا للسلطة والحزب الواحد، فنشأ إعلام سلطوي احتكر الساحة الإعلامية بقوة السلطة، ودعم بإمكانيات مالية وبشرية مؤدلجة كبيرة.
وفي أعقاب ثورة 2011 نشأت مؤسسات إعلامية مستقلة، عملت على تنظيم نفسها واستفادت من الاحتكاك
بالصحفيين الأجانب للتعرف على القواعد المهنية للعمل الصحفي، وانضوت تحت هيئة ميثاق شرف للإعلاميين السوريين.
وعززت ضبط منتجها الإعلامي بلجنة شكاوى منبثقة عن هيئة الميثاق لتقوي صلتها مع جمهورها وتتجنب أي انتهاك
بحق الأفراد أو المؤسسات وتحافظ على الحريات العامة، مفارقة إعلام النظام بالتزام أخلاقيات نقل الحقيقة، مبتعدة عن التضليل، ساعية للدقة والنزاهة، ومستقلة بسياساتها التحريرية.
لجنة الشكاوى خطوة مهمة لضبط المحتوى الإعلامي
ينتهك إعلام السلطة في سوريا القواعد المهنية بغالبية المحتوى المنشور، وبدأ الانتهاك يزداد وضوحًا منذ عام
2011 في تعامله مع الحراك الثوري، فغابت المصداقية في نقل المعلومات، وسعى هذا الإعلام لتزوير الحقائق
وسط غياب مؤسسات تحاسب على انتهاك معايير الصحافة وأخلاقها العالمية.
ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما نشرته قناة الإخبارية السورية عن المظاهرات في حي الميدان الدمشقي
ضد النظام أنه خروج عفوي للناس لشكر الله على نعمة المطر، ثم لتظهر المذيعة لترد على الانتقادات وتهاجمها
بقولها: “الي استحوا ماتو”!
في حين كان الإعلام المستقل ينقل هذه النشاطات أنها مظاهرات حقيقة ضد النظام السوري وحراك شعبي
عفوي للحرية والعدالة، ملتزمة بالدقة والمصداقية بنسبة كبيرة في نقل الأحداث، فكان وجود لجنة شكاوى
مستقلة تقيم المحتوى الذي ينشره الإعلام السلطوي ليكشف الانتهاكات ويوثقها، وكان غياب اللجان الحيادية
قد أسهم بتضاعف الخروقات المهنية، وأدى لوجود مسار إعلامي يقوم على التزوير وترويج الأخبار الزائفة والحض على الكراهية.
غياب منظمات المجتمع المدني
شجع غياب منظمات المجتمع المدني الذي من المفترض أن يتابع وينصف المتضررين من الإعلام
المركزي السلطوي، المؤسسات على تكرار الانتهاكات والتشجيع على القتل وشحن الخطاب الإعلامي بخطاب كراهية.
وابتعد الإعلام عن دوره في نقل المعلومة بمهنية وحماية حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية، وراح يحث
على القتل والدعاية للسلطة وأدواتها العسكرية والأمنية ، لذلك كان تأسيس ميثاق شرف للإعلاميين
السوريين مهمًّا لإيجاد دليل مهني للعمل الصحفي ووثيقة تلزم المؤسسات المستقلة بالقواعد المهنية.
وهذه الحالة أنتجت حاجة كبيرة لوجود هيئة ولجنة شكاوى لمتابعة القضايا والمشاكل الناتجة عن عدم
الالتزام بالقواعد المهنية وحل الخلافات التي قد تنتج عن اختراق القواعد الإعلامية، ومفارقة إعلام النظام السلطوي وانتهاكاته.
وسعى الإعلام المستقل المعني بالشأن السوري إلى الحفاظ على وحدة السوريين وعدم التكريس الطائفي
لهم، فلو تصفحت مواقع الإعلام المستقل، كحلب اليوم أو جريدة حبر أو المركز الصحفي السوري أو جريدة
عنب بلدي وغيرها، فلا تجد في منتجهم الإعلامي على اختلاف أنواعه أي مسميات تثير النعرات الطائفية أو
تحض على الكراهية، بسبب انضواء هذه المؤسسات في ميثاق شرف وإيجاد رقيب على محتواها، ومشاركتها
في إيجاد لجنة الشكاوى، ليضاف إلى مسيرة عشرات المؤسسات الإعلامية المستقلة محطاتٌ مهنية بعملها
لخلق لجنة مستقلة يكمن دورها في ضبط المحتوى الذي تنتجه، وهذا سيزيد ضبط المهنية وإعطائها الأولوية
في المحتوى الإعلامي، وسيعزز علاقتها الإيجابية مع المؤسسات الأخرى وتجعل الجمهور على رأس أولوياتها.
لجنة الشكاوى وإعلام السلطة
بوجود لجنة شكاوى مهنية منبثقة عن إعلام أخلاقي مستقل لا يمكن القبول بما بثته “قناة الدنيا” المقربة من
النظام من انتهاكات مهنية إعلامية ، منها ـ على سبيل المثال ـ المقابلة لفتاة ادّعت تعرضها للاغتصاب من قبل
المعارضة، ليظهر تسريب مصور تعترض الفتاة على تصحيح لغوي نبهها عليه المصور، لترد ضاحكة أنه موجود
في النص المكتوب والمعد لها، لتكشف حجم الانتهاك المهني والأخلاقي الممارس في القناة.
فوجود لجنة الشكاوى مهم للحد من هذا النوع من التضليل المتعمد والانتهاك الصارخ لأخلاقيات الصحافة،
لكن النظام السوري حريص على منع أي نقد سياسي وأمني له.
ومن بعض المعايير التي انتهكتها وكالة أنباء النظام الرسمية “سانا” أخلاقيات نشر الصور والفيديو للضحايا،
ففي نشرها فيديو لكمين تظهر فيه جثث لقوات المعارضة سقطوا على يد قوات النظام في الغوطة الشرقية
عام 2014، لم تراع “سانا” أخلاقيات كرامة الموتى وتمويه وجوههم ومشاهد الدماء والأعضاء المقطعة الظاهرة والتي تؤذي الجمهور.
فوجود لجنة شكاوى بين مؤسسات الإعلام تمنع هذه الانتهاكات وتتواصل مع المؤسسة الناشرة وتلزمها بحذف المادة أو تعديلها.
وعندما ينشر الإعلام المستقل مثل هذا المحتوى فإنه يخفي وجوه الضحايا ومشاهد الدماء وتقطيع الأعضاء،
ويبتعد عن المواد التي تسبب أذًى نفسيًّا للجمهور، وإن حدث انتهاك من هذا النوع، فإنه من الممكن أن يقدم
أي فرد شكوى بحق المؤسسة لدى لجنة الشكاوى في هيئة ميثاق شرف لمحاسبتها ومساءلتها عن هذا الخرق المهني.
في حال توسّع عمل لجنة الشكاوى أو كُلّفت بمتابعة الانتهاكات خارج المؤسسات الإعلامية المستقلة،
فسيكون على رأس المؤسسات المنتهكة للمعايير هو إعلام السلطة، وستكشف هذه اللجنة جرائم مهنية
يرتكبها هذا الإعلام في ظل غياب دور المؤسسات الرقابية المستقلة.
الربط بين الجمهور ونقل المعلومات
تسعى لجنة الشكاوى في هيئة ميثاق شرف بشكل حضاري للربط بين الجمهور ونقل المعلومات وتحليلها
بمساءلة مؤسسات الإعلام المستقل حول أي انتهاك مهني للأفراد أو المؤسسات أو المساس بالحريات العامة.
وهذا سيزيد من توخّي الحذر في ضبط المنتج الإعلامي لها بتفعيل لجنة الشكاوى على نطاق أوسع
وإلزام أكبر لمؤسسات الإعلام المستقل، وتبني رأي الجمهور في محتواها لا الأنظمة الحاكمة والسياسية.
ويقف هذا النهج على مفترق طرق مع إعلام النظام السلطوي الذي يستغل المعلومات في خدمة النظام
وتبني رواياته وحذو سياساته، وهو بهذا يفقد مصداقيته محليًّا ودوليًّا لانتهاكه المعايير والأخلاق الإعلامية
وسط غياب تام لأي مؤسسة مستقلة تضبط محتواه الإعلامي.
محمد إسماعيل