“اتفاق أضنة” اتفاق أمني سري؛ وقعته تركيا وسوريا عام 1998 وشكّل “نقطة تحول” رئيسية في مسار علاقاتهما، فتحولت من ذروة التوتر إلى تقارب تدريجي ثم “تعاون إستراتيجي” أدى لتوقيعهما عشرات الاتفاقيات في مختلف المجالات. وبعد اندلاع الثورة السورية اتخذت منه المعارضة السورية مستندا لمطالبة أنقرة بإنشاء منطقة آمنة شمالي سوريا.
السياق التاريخي
أفرزت تداعيات الحرب العالمية الأولى اتفاقًا بين تركيا وفرنسا -بوصفها دولة انتداب على سوريا- يقضي بترسيم الحدود التركية السورية، نتج عنه “سلخ” تدريجي لأراضٍ ضمت الحزام الشمالي لسوريا منذ ذلك الحين وحتى عام 1939.
وبعد ذلك دخلت العلاقات السورية التركية -حتى نهاية تسعينيات القرن العشرين- مرحلة من التوتر المتفاوت الحدة تبعا لدرجة شدة الهواجس والمخاوف المتبادلة، حيث اندمجت سوريا تدريجيًّا في الإطار التحالفي والردعي المفروض على المنطقة في إطار نظام عالمي ثنائي القطبية طبعته أجواء الحرب الباردة، فأصبحت الحدود السورية التركية واحدة من “حدود” هذه الحرب.
وطول عقود تركزت نقاط الخلاف والتوتر الشديد بين الطرفين حول قضايا الحدود، والمياه، والأكراد، ومستقبل العراق، والعلاقات مع الولايات المتحدة، وإسرائيل، والسياسات الإقليمية… إلخ.
لكن العامل الأكبر في توتر علاقات الطرفين -خلال الثمانينيات والتسعينيات- كان الدعم الذي ظلت دمشق توفره لحزب العمال الكردستاني (PKK) في صراعه المسلح مع أنقرة الذي اندلع في 1984، فكان زعيمه عبد الله أوجلان يقيم في العاصمة السورية، وسمح النظام السوري للحزب بتأسيس معسكرات تدريبية فوق أراضيه.
وبدءا من مطلع عام 1996 قدمت تركيا (في عهد الرئيس سليمان ديميريل ورئيس الوزراء مسعود يلماظ) تحذيرات للنظام السوري (أيام الرئيس حافظ الأسد) بضرورة الإقلاع عن دعم الحزب الكردستاني، وإلا فإنها “ستضطر لاتخاذ ما يلزم لحفظ أمنها القومي”.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 1998 بلغت الأزمة السياسية بين البلدين ذروتها -بصورة غير مسبوقة منذ عام 1958- حين حشدت أنقرة قوات كبيرة على حدود البلدين، مهددة باجتياح الجانب السوري منها إذا استمر نظام الأسد في توفير ملجأ آمن لأوجلان.
جرت وساطات إقليمية لاحتواء الأزمة شاركت فيها جامعة الدول العربية ومصر وإيران، وكان من نتائجها توقيع الدولتين اتفاقا أمنيا بمدينة أضنة التركية يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 1998، وشكل ذلك الاتفاق “نقطة تحول” رئيسية في مسار العلاقات بين الدولتين.
أبرز المضامين
حسب المتاح إعلاميا عن اتفاق أضنة وملاحقه السرية الأربعة فإن أهم مضامينه تتلخص فيما يلي:
1- تعاون سوريا التام مع تركيا في “مكافحة الإرهاب” عبر الحدود، وإنهاء دمشق جميع أشكال دعمها للحزب الكردستاني، وإخراج زعيمه أوجلان من ترابها، وإغلاق معسكراته في سوريا ولبنان (كان آنذاك خاضعا للوصاية السورية المباشرة)، ومنع تسلل مقاتليه إلى تركيا.
2- احتفاظ تركيا بـ”حقها في ممارسة حقها الطبيعي في الدفاع عن النفس” وفي المطالبة بـ”تعويض عادل” عن خسائرها في الأرواح والممتلكات، إذا لم توقف سوريا دعمها للحزب الكردستاني “فورا”.
3- إعطاء تركيا حق “ملاحقة الإرهابيين” في الداخل السوري حتى عمق خمسة كيلومترات، و”اتخاذ التدابير الأمنية اللازمة إذا تعرض أمنها القومي للخطر”.
4- اعتبار الخلافات الحدودية بين البلدين “منتهية” بدءا من تاريخ توقيع الاتفاق، دون أن تكون لأي منهما أي “مطالب أو حقوق مستحقة” في أراضي الطرف الآخر.
وقد فُسر هذا البند الرابع بأنه تخلٍّ رسمي من سوريا عن مطالبتها بلواء إسكندرون الذي تسميه تركيا “محافظة هتاي”، ليصبح بموجب هذا البند جزءا من الأراضي التركية. ويقول مراقبون إن السلطات السورية توقفت -بعد توقيعها اتفاق أضنة- عن طباعة أو نشر خرائط رسمية يظهر فيها لواء إسكندرون ضمن حدودها.
مستجدات الثورة
على إثر توقيع اتفاق أضنة تحولت علاقات أنقرة ودمشق من ذروة التوتر إلى “نقطة التقارب” التدريجي ثم المتسارع، وصولا إلى الدخول في “حوار إستراتيجي” كان من نتائجه تأسيس مجلس أعلى “للتعاون الإستراتيجي”، والدخول في عشرات الاتفاقات الاقتصادية والإعلامية والثقافية والتعليمية والسياحية، وتبادل عشرات الزيارات الرسمية على أعلى المستويات.
ففي 16 سبتمبر/أيلول 2009 اتفق البلدان على تأسيس “مجلس التعاون الإستراتيجي التركي السوري” الذي أبرمتا -من خلاله وفور تشكيله- ما يزيد على 30 اتفاقية و10 بروتوكولات ومذكرات تفاهم، تشمل مجالات حيوية من بينها الدفاع والأمن والاقتصاد والصحة والنقل، كما وقعتا اتفاقية قضت بإلغاء تأشيرات الدخول لرعاياهما.
وفي أكتوبر 2009 قالت وزارة الداخلية التركية إن عدد “الإرهابيين” الذين سلمتهم دمشق إلى أنقرة منذ عام 2003 بلغ 122 شخصا “بينهم 77 شخصا من حزب العمال الكردستاني”، وأكدت أن اتفاق أضنة “ما زال متواصلا، ولكن يعاد النظر في مجمل الوثائق ونبذل مسعى في مجال التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب على وجه الخصوص”.
وإثر اندلاع أحداث الثورة السورية عام 2011 توترت مجددا علاقات البلدين حين وقفت أنقرة مع الشعب السوري في مطالبه من نظام بشار الأسد الذي لم يستجب “للنصائح” التركية في الإصلاح، وفي يوليو/تموز 2012 حذرت الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان النظام السوري من مغبة “التورط في دعم الجماعات الإرهابية المسلحة”، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني التركي.
واتهمت أنقرة لاحقا الأسد بالتنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تعتبره فرعا سورياً لحزب العمال الكردستاني التركي، وبتسليم المناطق الكردية المحاذية للحدود التركية إلى “الميلشيات الكردية” وخاصة “وحدات حماية الشعب الكردية” (YPK) التابعة للاتحاد الديمقراطي. وهددت تركيا بـ”ممارسة حقها” في ملاحقة المتمردين الأكراد الأتراك داخل سوريا في حال الضرورة.
وفي 11 مايو/أيار 2016 قال الرئيس الدوري للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية أنس العبدة -في مؤتمر صحفي بولاية بيلاجيك التركية- إن “بروتوكول أضنة يهيئ الأرضية اللازمة لأنقرة لإقامة منطقة آمنة في سوريا، وفي حال تحقق ذلك وأُقيمت المنطقة الآمنة فإن أنقرة ستكون قد أمنت حدودها، وعندئذ يمكن للسوريين أن يعودوا إلى بلادهم بأمان”.
ويرى مراقبون أن عملية “درع الفرات” العسكرية التي أطلقتها أنقرة في صيف 2016 جاءت “تطبيقا تركياً” لبنود اتفاق أضنةوملاحقه السرية.