حلّ الشتاء الضيف الثقيل جداً على مخيمات النازحين، في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، حاملاً معه ذكريات من القصص والمآسي التي خلّفها وترك أثارها الغائرة في قلوب السوريين، لم يراعِ ألامهم وأحوالهم ويواسي أحزانهم مثله كَمثل الدول الكبرى صاحبة النفوذ.
عائلة حسين النازحة من بلدة خان شيخون، تسكن الآن بأحد المخيمات الواقعة في إحدى مزارع الزيتون، كان حسين قد أخذ الإذن بنصب خيمته المتواضعة التي لا تقيهم حرًّ الصيف، ولا تكون لهم ذلك الحصن المنيع أمام الرياح القوية التي تتلاعب بها، ناسيةً وجود أبرياءٍ احتموا داخلها.
حسين (خان شيخون، 40عاماً) ذو المناكب العريضة والجسم الضخم، يعمل في العتالة أثناء مواسم الحصاد، يداه الخشنتان المبسوطتان تحكيان أصناف الشدة والعناء، فقد أصبحتا بلا شعور للحرارة أو البرد، نتيجة ذلك العمل الذي يصنع من جسدِ الإنسان آلة أشبه بالحديد، لم يبقَ فيه سوى قلبه النابض بالرحمة والرأفة.
يقول متعجباً: بصوت فيه حدة قوية مع لحظات سكون “جانا يوم بالشتوية قلت قامت القيامة.. ياربي دخيلك.. بلشت الدنيا تسوَدّ كتير قلنا رح يجينا طوف اليوم، الله يستر”
وبدأ حسين بالتجهيز لمحاولةِ جعل الخيمة أكثر مقاومة لأي طارئ.
يستدركُ كلامه: ” بفصل الشتا حالنا يختلف تماماً.. مالي إلا كل يوم أصلح الخيمة، وأجمع التراب والوحل، مشان أعمل حواجز للمية عشان ما تدخل لجوا”
يقوم حسين بشد أوتاد الخيمة وغرزها بكل ما أوتي من قوة، في التراب.
حالهُ كحال جميع ساكني المخيمات، عِوضاً عن الذهاب لأعمالهم التي تنقطع بسبب بقائهم مع عوائلهم تحسباً لأي طارئ، ووعورة الدروب الموصلة لمكان الخِيام، ووجود برك الماء الطينية، يأملون بأن تمر تلك الساعات بأقل الخسائر كما يقول جار حسين الذي يؤوي عياله في خيمة مجاورة.
” الحمد لله إنه رزقني السِكنة جمب حسين، هو بيساعدني كتير بتزبيط خيمتي يلي هي رقعة قماش مهترية ”
يكملُ مازحاً “الجار قبل الدار” والضحكة تعلو صوته..
فيرد حسين مبتسماً: ” قلتلي دار مو، الله يردنا على ديارنا”.
ويكملُ حسين كلامه عن تلك الليلة: حلّ الظلام ولا نعرف هل هو ظلام الليل الدامس أم ظلام الغيم الداكنة، التي تحمل في بطنها براميل الماء المنهمر، وكأن السماء لا تحمل لنا إلا الخوف.
بدأ المطر ينهمر ويزاد قوةً، وكأننا في حال صدّ ودفع، كأننا على إحدى الجبهات والمعارك.. أصبح صوت زخات المطر المترامية بشكل لا يوصف على أسقف الخيم المسكينة، بوابلٍ من الرصاص الغير منقطع.
صفير الرياح الشديدة، وكأنه سيقتلع الشجر.. والأرض ويقلبها رأسا على عقب.
يصف حسين من داخل خيمته: ” قعدت أنا والمرة جنب بعض وولادنا بحضنا وحاطين فوقنا كل البطانيات يلي عنا.. وكل ماسمع صوت برا نفكرو أصوات قصف ومدافع، ومانشوف غير شي يلمع من فوقنا”
كان الرعد في فضاء الكون، فوق خيمهم المنهكة يصدحُ بأعلى صوت، وأصوات بكاء الأطفال تتعالى، تأتي من الخيام المجاورة، ترقُّ لها الحجارة قبل البشر.. وأصوات الرجال بصوتِ الخوف والترصّد، تلهج إلى الله بالدعاء بأن يكشف عنهم ما هم فيه.
حتى الخيام يتعالى منها صوت انفلاتها من أوتادها، والرياح تحاول اقتلاعها بمن فيها، فجأة خرج صوت وعويل مرتفع!
يقول حسين: أذني ترصدُ الصوت.. فإذ به جاري يقول “ساعدوني.. رح نموت رح يجرفنا السيل .. لم أتوانَ للحظة فخرجت فرأيت المنظر الأليم، خيمة جاري التي اقتلعت الرياح أوتادها، والماء اقتحم داخلها.. فأسرعت نحوها منادياً: “جيت.. يا رب”
وقدمي تنزلق في إحدى برك الطين، أخذت أولاً بحمل أولاده الصغار، وناديت له ولزوجته: الحقوني قبل ماتجي المي تشيلكم عالسريع ”
دخلت خيمتي، والأطفال كأنهم قطعة ثلج، من شدة البرودة ودخل أبويهم خلفي.. حملت عن أهلي بعضاً من البطانيات، لأغطيهم بها ”
يكمل حسين، أتساءل من يساعد الناس في المخيمات الأخرى، التي تكون في الوديان.. من يساعد الذين تنجرف خيمهم؟
ويستدرك كلامه قائلاً: الله لن ينساهم، أكيد مثل ما أنا ساعدت هاي العيلة، أكيد الله سبحانه بيبعتلهم ناس أهل نخوة و ضمير، وينهي كلامه: ” يارب أشكرك، لأنك سخرتني لأقدم المساعدة لإنسان وعيلته كانوا رح يموتوا”
قصة خبرية/ طارق الجاسم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع