تأخرت الولايات المتحدة وكذلك الدول الأوروبية في إدانة الانقلاب العسكري في تركيا.
وبعدما تيقنت من فشله، راحت تستنكره وتشدد على موقفها الداعم للديمقراطية، ليس ذلك فقط هو الدليل على دعمها أو على الأقل ترحيبها بالانقلاب، بل كان تنديدها باجراءات الحكومة التركية تجاه الانقلابيين أكثر من تنديدها بالانقلاب نفسه، كما لم تأت على ذكر الجرائم التي اقترفها الانقلابيون، وراحت تحذر من قمع الحريات بدعوى اجتثاث الانقلابيين، ثم أتت بعض المواقف وزلات اللسان، إن صح التعبير، لتفضح الكثير مما تخفيه الصدور، ولا يليق بمن يدعي الديمقراطية والعلمانية؛ فمثلا استدعت الخارجية النمساوية السفير التركي واحتجت على إجراءات حكومته في ملاحقة الانقلابيين، التي اعتبرتها قمعا للحريات، وكُتب في لوحة الإعلانات في مطار في النمسا لا تزروا تركيا لأن ذلك سيقوي أردوغان!
ماذا كان يدور في ذهن كاتب تلك العبارة سوى حصار سليمان القانوني لفيينا قبل خمسمئة عام. ليس هناك ما ينقموا عليه في تركيا سوى نجاح حزب ذي خلفية إسلامية في إدارة بلاده وقيادتها نحو أرفع درجات التقدم الاقتصادي والحضاري من جهة، وإعادته الوجه والطابع الإسلامي لبلد جهدوا عشرات السنين لإخراجه من محيطه الإسلامي وإقصائه عن لعب دوره في خدمة أمته والدفاع عنها.
كان لقرار الشعب التركي في رفض الانقلاب دور كبير في مواجهته، ولكنه ليس كافيا، لا بل لم يكن سبب إفشال الانقلاب؛ فعمليا واجهت وحدات من الجيش وأخرى من الشرطة الانقلابيين؛ ولم يكن ليحدث هذا لولا نجاح حزب العدالة والتنمية في بناء قوات موالية له، أو لنقل موالية للحكومة الشرعية تتحرك وفق ما يمليه عليها القانون.
عمليا يبقى الجيش والأمن القوتين اللتين تحافظان على النظام وتحفظان كيان الدولة، ولكنهما يجب أن يبقيا تحت سقف القانون، فلا يكفي فقط النجاح في صندوق الاقتراع للإمساك بزمام السلطة في بلداننا.
فمثلا لم يملك الرئيس مرسي أي قوة تدافع عن شرعيته، لذلك أطاح به السيسي بسهولة، وفي بلد لا يحترم فيه القانون أتى رئيس المحكمة الدستورية العليا وأخذ مكان الرئيس المنتخب وهو الشخص المفترض أن يتقدم الرئيس مرسي بشكوى إليه ضد الانقلابيين، فيقوم وفق القانون بحبس وتجريم الانقلابيين ويعيد الرئيس لمنصبه، لكنه فعل العكس واحتفظ لنفسه بمنصب الرئاسة.
رفضت المعارضة التركية الانقلاب ووقفت مع حزب العدالة والتنمية ضده، متناسية خلافاتها، وهذا موقف بديهي ربما يجب عدم الإشارة إليه مطلقا، ولكن بالمقارنة مع ما حدث في مصر إبان حكم الرئيس مرسي يستحق أن يكون أول قاعدة يتعلمها المعارضون العرب، فقد شارك معارضو الرئيس مرسي في انقلاب السيسي وانسلخوا عن أبسط بديهيات الديمقراطية وهي الاحتكام لصناديق الاقتراع والرضى بالنتائج التي تفرزها، لكنهم في مصر آثروا الانقلاب، لا بل صمتوا عن المجازر التي اقترفها السيسي في ميداني رابعة والنهضة ومنهم من دعمه حتى فيها.
لعبت كذلك وسائل الإعلام دورا في مواجهة الانقلاب في تركيا، إلا أنها لم تقم سوى بواجبها الذي تمليه عليها أخلاقيات المهنة، فلم يفعلوا شيئا سوى نقل الحقيقة، لكن للأسف نجد في المثال المصري وسائل إعلام مأجورة ومرتهنة لا تفعل شيئا سوى تسويق الأكاذيب وبطرائق سوقية وبذيئة في كثير من الأحيان، إذ أيدت انقلاب السيسي وسمته زورا ثورة، كما وقفت مواقف مناقضة تماما لما كانت تتحدث عنه إبان حكم مرسي على مختلف الأصعدة الاقتصادية والخدمية وغيرها، ثم بلغ بها الأمر مشاركتها السيسي في مهازل الانتخابات وتزويرها.
لا يكفي إجراء انتخابات حرة ونزيهة لترسيخ قواعد الديمقراطية، يحتاج الأمر إلى إشاعة ثقافة الديمقراطية بين أطياف الشعب والقبول بنتائجها والعمل فقط من خلال مؤسساتها، وربما الأهم في مثالنا العربي هو القوى التي تحافظ على الديمقراطية وهي القوى نفسها التي تمسك بزمام الأمر في الدولة وعمودها الفقري، وهي الجيش وقوى الأمن، بالإضافة إلى النظام القضائي، التي تشكل القواعد الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية.
تعتاش الأبواق الإعلامية المأجورة على فضلات موائد رجال أعمال فاسدين يشاركون من يطلقون على أنفسهم سياسيين في نهب بلدانهم، والقاسم المشترك بينهم جميعا هو فسادهم وعداؤهم للإسلاميين.
نظرية المؤامرة هي حقيقة وليست شماعه يعلق عليها التخلف والضعف والانحطاط في العالم العربي، لكنها مع ذلك ليست قدرا لا ينفع معه إلا التسليم والصبر، لا بل هي أمر يجب مجابهته والاستمرار في مقاومته، فهناك الكثير من الأدوات لدى الدول الغربية تفرض عبرها هيمنتها على شعوب دول العالم الثالث والدول الناشئة اقتصاديا تبدأ بصندوق النقد الدولي ولا تنتهي بدعمها للديكتاتوريات التي تحكم تلك الدول.
استطاع مثلا مهاتير محمد أن يتخلص من ضغوط البنك الدولي، ورسم سياسة خاصة لبلاده ماليزيا أدت إلى خروجها من الأزمة المالية التي عصفت بها عام 1998، من دون الحاجة لقروض وإملاءات تلك الأداة الاستعمارية، ونرى الآن أين وصلت ماليزيا.
وكذلك استطلاع حزب العدالة والتنمية أن يحقق قفزات كبيرة لبلاده تركيا، وهو الآن على موعد مع التاريخ ليمنح بلاده استقلالا عن الإملاءات الغربية، ويضعها في مصاف الدول العظمى، لأول مرة منذ سقوط الدولة العثمانية.
لا شك أن حجم التآمر على دولة مثل مصر ليس كما هو على تركيا مثلا، فمصر تحد الكيان الصهيوني، وتمثل قاعدة أساسية لنهضة عربية شاملة لا شك أنها ستقلب الطاولة على المشاريع الغربية في المنطقة، إذا ما أفاقت ونهضت، ولكن مع ذلك لا مفر من الاستمرار في السير على هذا الطريق الذي مهما طال سيفضي إلى نهاية لا محالة، لكن لبلوغ تلك الغاية لا بد من المرور بمراحل أهمها بناء دولنا من الصفر، فلم تنجح الثورة التونسية وأسقطت أول تجربة ديمقراطية في مصر، وكل ذلك بسبب الدولة العميقة، وكل ما يحاول الغرب إبقاءه من نظام الأسد الإرهابي – عبر حديثه عن المحافظة على مؤسسات الدولة – هو الدولة العميقة التي تبقى وفية لإملاءات الغرب ومشبعه بالفاسدين، فتشكل حجر عثرة في وجه أي حركة نهوض حقيقية.
بشار الجوباسي – كاتب سوري
القدس العربي