قفزت ذاكرتنا من فوق جثة الطفل إيلان اللاجئ السوري ذي الاعوام الثلاثة، الذي ألقت به أمواج بحر أيجه على الشاطئ في سبتمبر الماضي، بعد غرق المركب الذي كان يستقله مع عائلته، ولم نعد نتذكر صورة وجهه البريء المتوسد رمال الشاطئ إلا لماما. فهنالك وقائع واقعية تُنسى لأن الذاكرة الإنسانية تُريد أن تحافظ على أناقتها.
ربما من حسنات الحروب إن كانت لها حسنات، أن مآسيها اليومية تُحفّز ذاكرتنا المثقوبة على التذكُر، فنستعيد صور من قُتلوا غرقا أو حرقا، ومن هاجروا وهُجروا بعد أن كانوا لصيقين بنا وكنا لصيقين بهم. هكذا ذكّرتنا حادثة حرق الاطفال في مستشفى اليرموك في بغداد مؤخرا برائحة أجساد الاطفال الذين أحرقهم الامريكان في ملجأ العامرية في بغداد عام 1991، ثم جاءت صورة الطفل السوري عمران في الاسبوع الماضي لتكثف حالة التذكر في أذهاننا، فنستعيد صورة إيلان وأطفال العراق وفلسطين واليمن، وكل وجع الطفولة في مناطق الحروب والنزاعات في العالم.
هل رأيتم عمران في مقطع الفيديو الذي نشره مركز حلب الإعلامي؟ كان جالسا بصمت مُطبق على مقعد داخل سيارة الاسعاف والدماء تسيل من وجهه، الذي تحول جانبه الايسر الى قطعة حمراء، وإحدى عينيه نصف مفتوحة وقد تورمت، بينما تتدلى على وجهه البريء خصلات شعر أسود غُمس بالتراب. كان يمسح الدماء عن جبينه بيده الصغيرة، فينظر الى أصابعه الملطخة بالدم ويمسحها بالمقعد الذي يجلس عليه. يُعلّق المصور على اللحظة تلك فيقول، كان الاطفال يفقدون وعيهم أو يصرخون، لكن عمران كان يجلس صامتا، يُحدق مذهولا في عدسة التصوير كما لو أنه لم يفهم أبدا ما حل به.
قُصف البيت الذي يسكن فيه عمران في حلب المنكوبة، فسقط الجدار عليه وعلى عائلته ونجوا بأعجوبة، لكن النجاة لم تكن تعني شيئا لعمران لأنه ببساطة كان ينوء بثقل سنوات عمره الأربع، لانه ولد في زمن الحرب والدمار والقتل الأعمى، وإذا ما عرفنا أن الايام في الحروب تستحيل سنين، خاصة على المدنيين الذين يكونون أهدافا سهلة للقتل والحرق، وأن الطفولة تفقد مرابعها ولم يعد لها مستجير الا أحضان الامهات المليئة بالخوف، لم يعد للدهشة مكان في نفوسنا أمام حالة الصمت التي لاذ بها عمران. ربما كان البكاء يخفف عنه ما هو فيه، لكنه كان يعرف أن الناس في بلادنا يرغبون دوما في البكاء على الأحلام التي ضاعت، والأرواح التي زُهقت بدون وجه حق، والآمال التي اغتيلت وهي براعم، حتى باتوا ينتظرون بفارغ الصبر أي بَكّاء كي يُبكيهم، لكن عمران أبى أن يوفر لهم تلك الذريعة فعاند البكاء، ليس جحودا بنا ولكن ليُحفّز فينا الاحساس بالحياء من الواقع الذي وصلنا إليه.
فلقد تكيفنا مع الحروب الداخلية والخارجية، وتعودنا القتل والتهجير والعيش في العراء والخيم البالية، والهروب من الأوطان بركوب البحار، كي نقضي بقية عمرنا متآلفين مع عراء نفوسنا في الغربة، وآثرنا الأماكن الجديدة حتى لو فقدنا كل ذواتنا. كل هذه خسارات من النوع الذي لا يمكن تعويضه، لكننا تعودناها حتى باتت الحياة بأي شكل وبأي مستوى من الرثة هي أبلغ همنا. حتى صرخات الأطفال وبكاء النساء وأنين الشيوخ والعجائز المُحدودبة ظهورهم من ألم السنين، لم تعد تبعث فينا حرارة الغيرة كي تتمدد بقية الرجولة، فتشتعل النفوس بهم وتهتز القلوب وتنتفض الضمائر. فمتى نبلغ درجة الانصهار، فتندفع الدماء فينا الى درجة الرفض الإنساني المنطقي والمعقول والمقبول والمعتاد في مثل هذه الظروف؟ متى نُسمع الآخرين أصواتنا الرافضة، ونريهم أيدينا الضاربة، كي يستدلوا على أننا مازلنا أحياء، ولسنا راقدين في غرف الإنعاش أو الموت السريري؟
كل الأصوات تخرج همسا في بداياتها، لكنها ترتفع حين نمنحها الثقة والعون، فتجهر بالحق كما لو كُنا غير متوقعين منها ذلك. وكل الافعال تكون مُرممة في بواكيرها، لكن عندما تركبها الهمة تصبح فاعلة ومغييرة. وفي بلادنا لم يعد الهمس مفيدا، ولم تعد المهادنة والتلويح والتلميع والترميمات علاجا صائبا، لأن كل ذلك سيعطي مزيدا من الوقت للبُرك الراكدة فينا أن تأسن أكثر وتتعفن أكثر، حتى نصبح مجرد قطعان بيد لصوص ومستبدين وطائفيين، فنتصور أن الصمت المُطبق في مواجهة فائض الغضب حكمة، وأن المظلومية تمنحنا فرصة الفوز بالجنة، وأن التعقل بذل هو أسلم طرق النجاة. إن القبول بالذل والمهانة وهجر البيوت والأوطان وفرقة الشمل، سيجعل جلودنا سميكة الى الحد الذي يفقدنا الشعور بذواتنا وأحاسيسنا الإنسانية، فتختلط علينا معاني الكرامة والمهانة، والعبودية والتحرر والذل والكبرياء والجنون والتعقل، والصبر والبلادة. فالشعوب هي التي تخلق الفرص التاريخية، وتستبدل الخسيس بالنفيس، وهي وحدها التي تترك بصماتها على أرض الواقع في رحلة البحث عن الحياة الحرة الكريمة. لذا يجب علينا كعرب الحذر كل الحذر من العيش في واقع الظلم، وعلينا الحذر أكثر إن طال عيشنا في هذا الوسط، لان ذلك سينتزع منا أحساس الشعور بالألم، إلى الحد الذي يطيب لنا عواء المستبدين والطائفيين، فنذهب إلى تقليدهم في العواء حتى يصبح سمفونيتنا المفضلة.
لقد طالت استكانة شعبنا العربي إلى حد لا يطاق، وفاض كأس الظلم عدة مرات لكن من دون حراك. كل العالم عاش حالات استبداد لكنه تحرك فغير الخرائط وغير التاريخ إلا نحن. كانت ثالث الموجات الديمقراطية بدأت في جنوب أوروبا، إسبانيا والبرتغال، فتحولت من أنظمة عسكرية إلى ديمقراطية، ثم انتقلت الموجة الى أمريكا اللاتينية وبعدها إلى أوروبا الشرقية. وحدنا بقينا مصرين على أن نعيش خارج هذا السياق، فقبلنا ببرلمانات شكلية، وهللنا لتراجع السلطات إلى جمهوريات وراثية، وحتى حراكنا الذي كان أشبه بدبيب النمل وزحف السلحفاة، كان مجرد هراء فلم يستطع إنجاب التغيير. هل يُعقل أن يكون حراكنا أكثر فاعلية وجدية في الخمسينيات والستينيات منه في الوقت الحاضر، عصر الإنترنت والاتصالات السريعة والفضاء الإعلامي المفتوح ووسائل التواصل الاجتماعي والوعي السياسي؟ لماذا كانت زيادة أسعار الخبز تلهب الشارع وتُسقط حكومات، بينما ينعدم الخبز تماما عن ثلث أبناء الوطن العربي ولا من حراك؟ كيف يُهجّر الملايين من العراقيين والسوريين ويهيمون على وجوههم في البراري والقفار، ولا أحد يرفع سيفه أو صوته أو عقاله بوجه سلطان جائر؟ لم لم يدخل الخوف الى قلب يسرى سعيد ثابت، ابنة العشرين عاما وهي تهتف بسقوط الزعيم في عراق الخمسينيات أمام القاضي الجلاد، والغوغاء خارج سياج المحكمة يهتفون بضرورة إعدامها؟ ولماذا لم تنزو البطلة الجزائرية جميلة بوحيرد في بيتها وتترك الوطن للفرنسيين؟ ولماذا تغلب الهم الوطني على الاهتمامات الشخصية لدى البطلات الفدائيات الفلسطينيات ليلى خالد ودلال المغربي وغيرهما؟
يبدو أنه كان من الواجب على الأمة أن تستنسخ هؤلاء البطلات ليوم الشدة، وكذلك من الرجال الذين يحفل بهم التاريخ العربي. فهؤلاء وحدهم هم كانوا يستطيعون حفظ الطفولة في فلسطين والعراق وسوريا واليمن والسودان والصومال. وما فائدة التحليلات السياسية أمام مشهد الطفل عمران وملايين الاطفال العرب.