هل فعلاً موريتانيا «بلد المليون شاعر» ؟

تُعرف موريتانيا منذ عقود عدة بـ «بلد المليون شاعر». وساد الاعتقادُ بذلك في العالم العربيّ تحديدًا حتى أصبح معتادًا؛ فإذا سألنا شخصًا الآن ما هو «بلد مليون شاعر؟» فإنّه سيرد مباشرةً: موريتانيا. ولكن إذا سُئل ذلك الشخص نفسه عن المزيد حول موريتانيا فربّما لن يجيبَ، بعد أن تحكمّت استراتيجية اللقب الإيديولوجية بذهنه. تلك الاستراتيجيّة التي تركز قوتها على نقطةٍ معينة في مقابل تهميش أشياء أخرى كثيرة. وكأنه كلّما تمركزت الرؤيا على منطقةٍ معينة تمركزًا كبيرًا أصبحتْ في عماءٍ شديد لا يمكن معه مشاهدة المناطق الأخرى.
ككل لقبٍ، لا يخلو من مبالغاتٍ جمّة، فإنّ لقب «بلد المليون شاعر» الذي يطلق على موريتانيا يحتاج لنظرةٍ نقديّة متأنية، تبحثُ في دواعي وسياق إطلاقه، وتبيّن طبيعة عمله في المحافل الثقافيّة العامة، كاشفةً الحجاب عن الأسس الضمنية التي يعملُ وفقًا لها.
تتحدّد وظيفة اللّقب في العمل على تجهيز الأرضية لسيطرة تعميماتٍ خارقة، لم تخضع يومًا للمساءلة، ولم تُناقش في مزاعمها التي تترتب عليها سياساتٌ اجتماعية وثقافية موّجهة. كما في لقب «بلد المليون شاعر» الذي تحوّل، نتيجة الاستخدام غير النقدي، إلى كليشيهٍ تقييمي جاهز، تحتشدُ وراءه دلالات عشوائية غير مقيّدة بأيّ سياقٍ تاريخيّ معين، لأنّ طابع العمومية الذي تتخذ جعلها عابرةً لكلِّ سياق. وعند عبور السياقات تتحوّل الأشياء إلى انطباعاتٍ تجريديّة تسعى، بكلّ قوّة، إلى صناعة بداهةٍ تصوريّة متوهمة حول ذاتها، كما هو الحالُ مع هذا اللقب الذي أصبح ينشط كـ «حقيقةٍ» مُعطاة بشكلٍ مسبق، مع انعدام أيُّ نسبيةٍ متواضعة تنجو به من فخّ التضخم الفارغ.
أسطورة قابلة للاستهلاك
يعكسُ لقبُ «بلد مليون شاعر»، الذي ظهر في ذلك السياق، تصوّرًا تفخيميًا حارًا يصلحُ للاستهلاك الدعائيّ أكثر من غيره. فنشأته في مرحلة تعرّفٍ «انبهارية» جعلته قابلًا للاستخدام في حالات الاحتفاء فقط، التي تشكل تقريبًا غالبية حالات التعامل مع الشعر الموريتانيّ حتى الآن. والذي على الرغم من تقدّم الزمن فإنّ التعامل معه، بقيَ دائمًا تعاملًا احتفائيًا تنعدمُ في خاصية النقد الجديّ. وتكادُ السمة الصحافيّة العجولة، التي تطبع اللقب الذي نحن بصدده الآن، تكون تأكيدًا على ذلك، خاصة وأنها كانت تسعى لتقديم موريتانيا للقرّاء العرب في صورةٍ شبه عجائبيّة تجلبُ الاهتمام الاستهلاكيّ. على الرغم من أنّ لقب «بلد المليون شاعر» أُنتجَ من طرف مهتمين خارجيين منبهرين إزاء واقعٍ بدا لهم غير اعتيادي، فإنه قوبلَ باهتمامٍ كبير من طرف الموريتانيين أيضًا، وخاصّة منهم الفاعلين الثقافيين الذين هم على صلةٍ مباشرة بالساحة الثقافية والأدبية. وقد تحوّل ذلك الاهتمام في غضون فترة وجيزةٍ إلى آليةٍ للافتخار الثقافيّ الفارغ من أيّ قيمة، وهو ما لا يبدو غريبًا في تربةٍ ثقافيّة تقوم عل قيم التمجيد القبليّ، وأغلبُ تعاملها مع الشعر هو تعاملٌ تمجيديّ يتقمّص أدوار النبل والفحولة والبطولة، التي تلعب دورًا قيميًا كبيرًا في تكوين وعيهم بذاتهم، هذا إن لم تكن شرطًا له. لطالما بدا الاهتمام الموريتانيّ بهذا اللقب تعويضًا عن زمنٍ كان فيه الموريتانيون يشعرون بهامشية وجودهم/دورهم في حركة الثقافة العربية. لذا فإنه كان من الطبيعيّ تقريبًا، في تلك الحالة، أن تتم مقابلة ذلك الاحتفاء الخارجيّ باحتفاء داخليّ أكبر منه، ينشطُ على استهلاك تصنيفاتٍ سريعة، لن تلبت تتحول، مع الزمن، إلى حقائق مطلقة ترعاها الأوساط الثقافية والجهات الرسميّة وتستهلكها أيضًا، بشكلٍ دعائي واضح، في كلّ ما يفخم من الهوية الثقافية التي أصبحت ملاذاً خياليًا بديلًا لواقعٍ متأزم على كافة المستويات.
عوضًا عن أن الطوبى البديل الذي خلقه لقبُ «بلد مليون شاعر» جاء في مرحلةٍ صعبة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، فإنه أيضًا جاء موافقًا لحنين تنطوي عليه ذاتُ الموريتاني البدوية التي يصلُ الشعر عندها لمكانةٍ كبرى. فالموريتانيّ، في حالته البدوية، وعلى الرغم من أميته في أكثر الأحوال، إلاّ أنه كان يتميز بقوّة الحفظ وسرعته التي ترى في الشعر سلاحًا ضروريًا ينبغي اصطحابه في شتى مواقف الحياة. لكن المُحيّر، إذا استندنا للتفسير الانقساميّ في التعامل السيسيولوجي مع القبيلة، هو كيف استطاعَ لقبٌ بتلك العموميّة الوطنية المجردة، أن يلقى صدىً إيجابيًا في نفوس سكانٍ تعبر غالبيتهم المطلقة عن نفسها ضمن أطرٍ قبلية ضيقة جدًا؟
توضح تلك المفارقة أنّ لقبَ «بلد مليون شاعر» شكل إحدى السرديات الهوياتية والثقافية التي تأسست عليها الدولة الوطنية الوليدة في الستينيات، لا من جهة تكوين تصوّر ذاتيّ عن نفسها، وإنمّا من جهة توفير رأسمالٍ ثقافيّ يكون مُقومًا لوجودها.
لذا لم يكن مستبعدًا، بأيّ حالٍ من الأحوال، اللجوء إلى احتضان لقبٍ مؤسطر وترويجه ثقافيًا عبر مؤسساتٍ وشخصياتٍ رسمية.
المصدر: القدس العربي

اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا

 

المقالات ذات الصلة

النشرة البريدية

اشترك ليصلك بالبريد الالكتروني كل جديد:

ابحثهنا



Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist