في السنوات الأخيرة شاعت، بين أنصار الحرس الثوري، قصيدة تخاطب قائدهم المفضل، وتبدأ بالقول: «أيها العدو الوضيع… أنا إيراني!
هل تخيفنا بقطع الرؤوس؟
[لكن] لن يصل دورنا للقتال
ما دام حاضراً قاسم سليماني».
يلخص هذان البيتان، بدقة، وظيفة الجنرال الذي بدأ حياته مدافعاً عن حدود الجمهورية الإسلامية الناشئة ضد جيش صدام، وأنهاها ضيفاً فوق العادة قرب مطار بغداد، بعد أن رسم للإمبراطورية حدوداً متقدمة غير منظورة ومحاربين وكلاء في كل من العراق ولبنان وسوريا بشكل أساسي.
في الكتاب الذي صدر بالفارسية بعنوان خاطرات «الحاج قاسم»، وترجم إلى العربية بعنوان «قاسم سليماني: ذكريات وخواطر»؛ جمع المعدّ بعض ذكريات سليماني وخطبه أثناء معارك «الدفاع المقدس»، وهو وصف الحرب العراقية الإيرانية من وجهة نظر طهران، تاركاً للتاريخ أن يسجل وقائع السنوات التي نقل فيها سليماني الصراع من الدفاع إلى الهجوم عبر التمدد الإقليمي بأذرع راسخة.
غير أن الكتاب لا يفتقر إلى القيمة الراهنة، فهو يرسم بوضوح معالم تكوين هذا القائد البارز، منذ ولادته في قرية صغيرة من ضواحي مدينة كرمان، عام 1958، وتركه المدرسة بعد نيل الابتدائية ليصبح عامل بناء، ثم تمكنه من الحصول على شهادة البكالوريا وشغل وظيفة في «مصلحة مياه كرمان»، حتى التحاقه بالحرس الثوري عام 1980، قبل أشهر من اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وانتقاله إلى الجبهة بوصفه قائد فصيل محلي مكون من 300 مقاتل، في مهمة مدتها الأصلية أسبوعان، وقدّر لها أن تستمر حتى انتهاء الحرب بعد ثماني سنوات هي الأعمق والأشد حفراً في حياة هذا المتطوع المتحمس وشخصيته، بين الثانية والعشرين والثلاثين من عمره.
لا شيء أكثر حضوراً في خاطرات سليماني من زملائه «الشهداء» وحكاياتهم. إنهم ليسوا هناك فقط، حيث سقطوا بين الأشجار والرمال والمياه، بل هنا أيضاً، في ذاكرته القريبة ومخيلته. يروحون ويجيئون مسلّحين بمباركة «صاحب الزمان» الذي يتجلى لهم في الأحلام، و«الزهراء» التي لا تفارقهم في الطريق إلى كربلائهم، عندما تلعب الروحانيات الدور الأكبر في تحديد نتيجة المعركة، لا الخطط الحربية المحترفة التي يشير إليها سليماني باستهانة، كما يفعل مترجموه الذين يفاخرون أنه خرّيج مدرسة «الشهداء» لا «الأكاديميات الحديثة».
في هذا، وفي غيره، يبدو سليماني ابناً صميماً لتجربة الحرس الثوري الذي يعدّه «معراج المجاهدين». وبالضبط، كما تغوّل الحرس على الحياة العسكرية والسياسية في إيران باعتباره مؤسسة وصاية فوق حكومية، فضّل سليماني التعامل مع تشكيلات رديفة وقوى أهلية لا مع القوات النظامية؛ كالحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان والميليشيات العديدة في سوريا، وقبل ذلك كله مع فصائل في أفغانستان اللصيقة.
كما تغوّل الحرس على الحياة العسكرية والسياسية في إيران باعتباره مؤسسة وصاية فوق حكومية، فضّل سليماني التعامل مع تشكيلات رديفة وقوى أهلية لا مع القوات النظامية
لكنه، بخلاف قادة آخرين في الحرس، لم يتدخل بشكل مؤثر في الشؤون الداخلية وأجنحتها المتصارعة، ولا في هيمنة جنرالاته الاقتصادية وما لحق بها أحياناً من شبه فساد. المشكلة المعلنة الوحيدة التي ارتبطت باسم سليماني كانت عند اصطحابه بشار الأسد في زيارة مفاجئة إلى المرشد، في شباط 2019، دون حتى إبلاغ وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي تقدّم باستقالته إثر ذلك. لقد كان ظريف، بلحيته المشذبة وبدلته المدنية، رأس ديبلوماسية الحكومة. أما سليماني فكان وزير خارجية الخامنئي وجنديه الأثير، بأساليب حربية وذخيرة وافرة.
في الواقع، يرجع الجزء الأكبر من إنجاز سليماني إلى كونه موضع ثقة الولي الفقيه آية الله علي خامنئي. وذلك عبر ما أتاحه المرشد للجنرال من إمكانات مادية وحربية ومد عباءة «الولاية» عليه بأمر المقلدين بطاعته، وهذا عامل حاسم لدى ملايين الشيعة العراقيين واللبنانيين، سواء في بلادهم أم في سوريا التي انطلقوا لممارسة «الجهاد» فيها، ناهيك عن مجندين أفغان وباكستانيين زجّهم سليماني في هذه الحرب مستنداً إلى علاقات حدودية سابقة، وأخيراً بالاعتماد على أقلية شيعية سورية صغيرة عملت بطاقة شبه كاملة وبمواقع محلية مميزة.
طيلة سنوات من البقاء في الظل تكونت عن سليماني أساطير غذّاها موالوه، ونفخ فيها أعداؤه أحياناً، من الخبرة الإستراتيجية إلى المهارات التكتيكية. غير أن شيئاً من هذا لا يبدو مؤكداً مع وقائع الوحشية البدائية العارية التي اتسمت بها أغلب انتصارات قواته الفصائلية والشعبية متباينة التأهيل في كل من سوريا والعراق. وخاصة إثر مقتله بشكل بدا معه في متناول اليد، إثر سفره بطائرة ركاب من بيئة شهيرة بالفساد في مطار دمشق، بعدما نُسبت إليه عقلية استخباراتية فذة!
تشكّلت كاريزما قاسم سليماني من نمط القيادة الشعبوي هذا، من إمامته بجنوده قبل الاشتباك، من تقبيله رجلي أم «شهيد»، من تبركه ببقايا اليد المقطوعة لجريح، من تعليق صور من قضوا من رفاق دربه على جدران منزله
أما الفيديوهات القليلة التي بُثت له، أو تسربت، فلا تقول أكثر مما تفيد به سنوات التكوين تلك عن رجل يتمتع ببساطة نسبية مباشرة، لكنه يقضي جل وقته بين عناصره المختلفين على الأرض، متنقلاً بيسر بين الدول، يلقي فيهم مواعظ عاطفية مفعمة بالرموز الطائفية، ويقودهم إلى القتل.
تشكّلت كاريزما قاسم سليماني من نمط القيادة الشعبوي هذا، من إمامته بجنوده قبل الاشتباك، من تقبيله رجلي أم «شهيد»، من تبركه ببقايا اليد المقطوعة لجريح، من تعليق صور من قضوا من رفاق دربه على جدران منزله الذي صار قليلاً ما يمكث فيه خلال الأعوام الفائتة، من الرسالة التي تركها في أحد منازل مدينة البوكمال السورية الحدودية، معتذراً من صاحب البيت على الإقامة فيه لأيام، مغفلاً دولاً قد استباحها ودماء عارمة أسالها!
لكنه، عبر تصرفات المقاتل المخلص هذه والتواضع الشخصي، كوّن علاقات فئوية واسعة سرت عميقاً في شروخ تكوين بلدان المشرق العربي الذي انهارت دوله الوطنية المفلوقة بتصدعات عمودية، وتُركت جماعاته لتتدبر أمرها ولو بالاستثمار الخارجي الذي يغدو داخلياً مع الولاء الطائفي.
سليماني لا يُعوّض بالنسبة لإيران. إنه ليس مجرد قائد يجري تعيين آخر مكانه. فقد صار جزءاً عضوياً من تواريخ دول المنطقة في العقد الأخير. ولذا فإن مقتله يؤذن بوضع حد للطموحات الإمبراطورية بعدما ضاق بها العالم. ورغم التهديدات ذات النبرة العالية يستبعد أن تتورط إيران في حرب شاملة. أما أيتام الحاج قاسم فلا يتقنون الرد سوى بالإرهاب الذي سيستنفر المزيد من الأعداء بسبب شراسته وانتشاره، حتى يتم تطويقه وإخماده. إنه طريق طويل وعسير بعد سنوات من الغطرسة، لكن الأرجح أنه قد بدأ.
الكاتب: حسام جزماتي
نقلا عن : تلفزيون سوريا