“حاتم” شاب دمشقي، في الرابعة والثلاثين من عمره، متوسط الطول، نحيل الجسم والوجه، أجبرته قساوة الحرب أن يغادر بلدته في الغوطة الشرقية وبستانه الذي لطالما اقتات منه وأطعم من خيراته الجيران والفقراء.
اضطر حاتم وزوجته التي تحمل بين ذراعيها طفلتهما التي لم تتجاوز السنة أن يتركا بيتهما وبستانهما بباص أخضر من الخارج وأسود قاتم من الداخل, قبل سنتين تقريباً, إلى الشمال.
“سكنت وعائلتي في قرى ريف إدلب الجنوبي, حيث استقبلنا أهل المنطقة ورحبوا بنا فأعطاني “أبو محمد” غرفة قريبة من بيته كان يستخدمها كمضافة، وأعانني على إيجاد عمل في الزراعة في أرض أحد أقربائه”, ولكن لم يطل هذا الحال بحاتم, حتى بدأت طائرات النظام تقذف صواريخها على المنطقة بلا رحمة ولا رادع، فاضطر أهل المنطقة والمهجرين فيها للنزوح إلى الشمال فيقول حاتم “كم اسودت الحياة في عيني ورحت أصرخ، إلى الشمال!!! وأي شمال بعد!! ألم يعد يتحملنا أي شمال!!!
يصف حاتم قطار النازحين الطويل الذي امتد على طول الطريق الواصل بين جنوب إدلب حتى الحدود التركية “أحسست وقتها أنّ الأرض ضاقت بنا وأن الموت لا محال قريب، فمن الصعب أن تخمّن أين ينتهي حبل السيارات المكتظة المليئة بالنازحين”.
سكن حاتم وعائلته تحت شجرة زيتون لمدة أسبوع, ثم تم نقلهم إلى خيمة في إحدى مخيمات الشمال أيضاً، لكم استذكرتني رحلات حاتم برواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” مع اختلاف كبير في نوع الشمال.
يعدّل حاتم من هندامه القديم الذي بدأ عليه القدم بمعطف جلدي من النوع الرديء المهترئ فوق الأكتاف وعند الياقة بسحاب معطل ثبته في المنتصف محاولاً ربطه لمنحه الدفء، وبنطال أخضر اللون بجيوب عدّة، ويكمل حديثة وهو يمسح لحيته التي اتسخت كثيابه معلنة القبول لأي عمل يقوم به صاحبها “بحثت كثيراً عن عمل بالقرب من المخيمات في الشمال, ولكن كثرة عدد النازحين وقلة فرص العمل حالت بيني وبين أي عمل يقيني برد الشتاء وجوع الأيام، ومن الصعب جداً أن أذهب إلى المدينة بحثاً عن عمل قد لا يكفيني لدفع أجرة الطريق ذهاباً وإياباً”.
ومع استمراره في جمع بعض البلاستيك والكرتون يقول “كنت أخجل من هذا العمل، ولكني أدركت أن خجلي من نفسي أهون عليّ من خجلي من ابنتي الصغيرة التي تحتاج اللباس والطعام والألعاب كغيرها من الأطفال”.
وبعد أن وقف للحظات, وتأمل الأفق نحو الجنوب, مدّ حاتم ذراعه وقال: “هناك في الجنوب بيتي وبستاني ينتظران عودتي ويشتاقان لرؤيتي كشوقي لرؤيتهما واحتضان الذكريات فيهما من جديد، فهل سأعود يوماً ما”
وفي الحديث عن كورونا وانتشاره في المنطقة يقول: “إن توقفت عن العمل بسبب الوباء، سنموت من الجوع، وفي كلا الحالتين نهايتنا الموت. ولكني أخاف كثيراً أن أصاب وأنقل العدوى إلى زودتي وابنتي فأحاول بذل كل ما أستطيع لوقاية نفسي بارتداء الكفوف واللثام وغسل يدي كلما سنحت لي الفرصة لذلك”.
مع أمل لا يزال خافقا في الصدور، باثا لذكريات الحروب، مثقلا لها بالهموم والكروب، يكافح شبان سوريا المتعبون، المنهكون، للحياة والحرية، ويسعون لتأمين لقمة العيش لذويهم بشتى الوسائل.
محمد المعري / المركز الصحفي السوري