بعدما أصبحت مدينة إدلب وريف حماة الشمالي حاضنة لأغلب المظاهر الثورية والمدنية الحرة، غدت من الأهداف التي تأخذ النصيب الأكبر من حملات القصف الهمجية التي ينفذها النظام وحلفاؤه الروس, حيث تنهال عليها آلاف من الصواريخ والبراميل المتفجرة كالمطر بسبب كثافة الغارات, ما أدى للعديد من حالات الإعاقة الجسدية وإزهاق أرواح الأبرياء وتخريب ممتلكاتهم.
“أبو أحمد شاب” في العقد الثالث من العمر, يعمل في دكانه البسيط ليؤمن لقمة العيش لأولاده في لحظة علت أصوات صافرة الإنذار وسمع دوي انفجار هائل جراء قصف لطائرات النظام على أحد الأسواق المجاورة.
هرع راكضا لإسعاف المصابين وتتالى أمام عينيه جثث وأشلاء مدنيين، كانوا قبل قليل يشاركونه آلاما وآمالا وهموم المعيشة، لكن الآن فرقتهم نتائج قصف همجي، ليساعد بغمرة من الألم في إسعاف أبناء بلده الذين عرفهم، في هذه الأثناء فجع بمشهد لم يكن يتوقعه منظر ابنه ملقى بجانب عربة خضار وقد صعدت روحه لتطير في جنات ربه، جثا على ركبتيه معانقا ولده ومناديا باسمه (عيسى عيسى ..) بصوت أرهقه ألم قاتل للروح، صوت يؤكد أنه فقد فلذة كبده..
عيسى طفل حموي في السابعة من العمر كان يلعب أمام منزله في يوم مشمس غلب عليه الدفء وانحسار الغيوم ما أعطى أريحية لطيران النظام، في تنفيذ طلعات على المدن كان إحداها مكان لعبه ما أدى لمقتله.
وكانت والدة عيسى سمحت لابنها بالخروج من المنزل، للّعب بعد اعتدال حرارة الطقس، التي دفعها لحرمان ابنها من الخروج سابقا بسبب موجة البرد الشديد التي أجبرت السكان على البقاء قرب مدافئهم خوفا من نزلات البرد، لم تعلم والدة عيسى أن الفرح الذي أراد أن تدخله إلى قلب ابنها، سيكون سببا في مقتله وحزنها.
“أم عمر” تواسي جارتها، بعد فقدها عيسى، ولكن كانت مواساتها من نوع آخر، حيث من المفترض أن تكون المواساة بالكلمات الطيبة، لتصبير ذوي الميت، لكن أم عمر واست أم عيسى بتذكيرها بزوجها الذي فقدته بغارات سابقة، على المدينة حيث مزجت جرحها وألمها على زوجها مع جرح جارتها، لتخفف الأم بالألم وتواسي الدموع بالدموع.
في مشهد مؤلم لذوي الفقيد عيسى أثناء تشييعه، تلتقى جنازته مع جنازة شهيد آخر من ضحايا طيران النظام، وتختلط الأحزان مع بأس الرجال أمام أشلاء أقاربهم، لتعلوا رائحة الدماء في ساحة المقبرة أثناء الصلاة على الجثامين الطاهرة.
حال أم عيسى وأم عمر كحال آلاف الأمهات، والزوجات السوريات اللواتي فقدن أقارب لهن بمثل تلك الغارات، التي أصبح في ذمتها كثير من الأرواح، أرواح أزهقت في مختلف مناطق الثورة السورية الخارجة عن سيطرة النظام، المستمر بإرسال طائراته لقتل المزيد من الأبرياء، وحرق قلوب الأمهات على فلذات أكبادهن.
مصطفى قريش – المركز الصحفي السوري