عندما يتوقف إطلاق النار وتستقر الطائرات في مرابضها ستتجلى المأساة السورية بأوضح صورها، وستبدأ قصص الظلم تطفو وتزداد المطالب بالحقوق التي هُدرت لسنوات من أجل إنصاف المظلومين وتعويضهم، وستبرز الحاجة لتطبيق العدالة الانتقالية التي يعتبرها الكثيرون ضرب من الخيال في الوضع الحالي بسبب رفض النظام لأي تسوية خارج فرض القوة العسكرية والتشبث بالسلطة مهما كان الثمن وتفضيل المكاسب السياسية للفئة الحاكمة على المصلحة الوطنية للشعب والدولة، إضافة الى التدخلات الأجنبية وحجم الدمار والخسائر في الأرواح والممتلكات وملفات الهجرة والنزوح الضخمة والمعتقلين وتعدد القوى المعارضة وتشرذمها و الحالة المترهلة للجهاز القضائي في سورية كلها عوامل تشكل تحدياً هائلاً أمام البدء بإرساء مبادئ عمل للعدالة الانتقالية.
لكن تبقى تجارب الشعوب التي طبقت أشكال من العدالة الانتقالية حينما ثارت على الأنظمة المستبدة وأعادت السلام والاستقرار ورسخت قيم الديمقراطية في مجتمعاتها وكيّفت العدالة على نحو يلائم مجتمعاتها بعد خوض مرحلة من التحولات في أعقاب حقبة من تفشي انتهاكات السلطات، فشكلت هيئات متخصصة معترف بها رسمياً ومفوضة تستمد صلاحياتها من سلطات محلية أو دولية أو ينص على تشكيلها في اتفاقية سلام بعضها على شكل هيئات قضائية تتمتع بالاستقلال القانوني والتي أهتمت بتوثيق الانتهاكات والتحقيق فيها لإعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية واطلاق حوار عام تعددي حول ثقافة حقوق الانسان وتوثيق كل الانتهاكات وتسجيلها حفاظاً على الذاكرة الفردية والجماعية وتدعيم دور المجتمع المدني وتشجيعه على الكشف والاستفادة من تجارب العدالة الانتقالية الملهمة في الدول الأخرى.
تجارب العدالة الانتقالية في بعض الدول
تعتبر تجارب العدالة الانتقالية إرثاً إنسانياً يمكن الاستفادة منها في سوريا فالتجربة البولندية عام 1989 تزامنت مع تجارب شبيهة بأوربا كانت ملهمة في كثير من مراحلها، أستمرت أكثر من عشر سنوات لاعتمادها على سياسة التدرج بتطبيق العدالة الانتقالية وانتهجت سياسة التساهل والمصالحة الوطنية مع أعوان النظام السابق لحشد الجهود الوطنية للبناء وسنت قوانين لإعادة تأهيل مرتكبي الجرائم السياسية في الحقبة الشيوعية وأجرت تغييرات عميقة في القضاء وجهاز الادعاء العام والأمن ووزارة الدولة لشؤون الداخلية والتزم السياسيون هناك بمبدأ سيادة القانون وتجنب استخدام السلطة والقوة للانتقام من رموز الحكم السابق، وأقرت السلطات تعويضات مالية مجزية للضحايا وعملت على إعادة تأهيلهم وتولت هذه المهام هيئة الذاكرة الوطنية البولندية التي تلقت ألاف الدعاوي من بينها 21 ألف دعوة ضد شخصيات سياسية ورجال شرطة وأمن.
أما التجربة الألمانية الشرقية فقامت على تطبق القوانين الذي كانت سائدة في المانيا الغربية بالرغم من تحفظ الكثيرين على ذلك واعتبارها تطبيق قانون دولة على مواطني دولة أخرى مما سيكون له نتائج سلبية، وخلال سنة واحدة بعد سقوط جدار برلين عام 1989 تم انتخاب مجلس نواب في المانيا الشرقية وتنازل هذا المجلس عن صلاحياته لمجلس فيدرالي اتحادي مع مجلس نواب المانيا الغربية، وتم الانتقال من حكم شيوعي الى ديمقراطي خلال فترة قصيرة كما تم محاكمات بعض الزعماء السابقين مثل الأمين العام للحزب الشيوعي الحاكم سابقاً والرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية وبعض الجنود والحراس الذين أطلقوا النار على من حاول عبور جدار برلين فكانت الأحكام مخفّفة، لكن كانت لها رمزية كبيرة وأكدت على عدم الإفلات من العقوبة لمرتكبي الجرائم وأقرت السلطات دفع تعويضات مالية للضحايا وإعادة تأهيل 45 الف متضرر، هذه الخطوات قد ترسم خارطة طريق لسوريا مستقبلاً لترسيخ قيم العدالة.
وفي جنوب افريقيا تشكلت لجنة الحقيقة والمصالحة التي اعتبرت أن العدالة الانتقالية لا مستقبل لها دون مسامحة وعليه تم استبعاد خيار محاكمة الذين كانوا يتفاوضون حول العملية السياسية للانتقال نحو الديمقراطية, لكن عند التفكير بتطبيق هذا النموذج من العدالة في سوريا نجد هناك معوقات تختلف عما واجهته جنوب أفريقيا، فالإرادة الدولية مازالت غير جادة في وضع حد للنزاع في سورية كما كانت في جنوب أفريقيا، كما إن وجود شخصية مثل {نيلسون مانديلا} ساعد على وقف الحرب، يضاف لذلك وجود مجتمع مدني قوي ومتفق عليه من كل الأطراف لعب دوراً هاماً في حماية السلم.
تجارب العرب مع العدالة الانتقالية
أنشأ المغرب نهاية 2003 هيئة الانصاف والمصالحة كأول تجربة عربية في العدالة الانتقالية، حيث بحثت بأكثر من 25 ألف ملف ونظمت جلسات حوار وجلسات عمومية للضحايا وأصدرت في نهاية أعمالها تقريراً ختامياً أحتوى على مجموعة توصيات، وقد تضمن الدستور المغربي الجديد الذي صدر عام 2011 جميع التوصيات التي صدرت عن الهيئة وتمكنت هيئة الانصاف من تسوية أوضاع مئات المشاكل الإدارية والمهنية لضحايا حقوق الانسان وأقرت تعويضاً لـ 20 ألف ضحية.
أما التجربة التونسية فقد صادق مجلس الوزراء عام 2012 على قانون العدالة الانتقالية وأسند ملف حقوق الإنسان إلى وزارة مختصة، هي “وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية”.
وتضمن برنامج عمل الحكومة المؤقتة بعد الثورة موضوع “العدالة الانتقالية” كإحدى الأولويات الأربع في عملها، كما أنشأت آلية خاصة لتعويض الضحايا وتأهيلهم هي “صندوق شهداء وجرحي الثورة وضحايا الاستبداد” وصدر مرسوم بذلك.
التجربة العراقية فشلت كما يقول الدكتور علاء عبد المحسن السيلاوي الذي يضيف ” أن الأسباب تعود الى غياب الأدوات ومنها قانون متخصص لتطبيق العدالة الانتقالية وعدم فتح حوار مجتمعي شامل والاكتفاء بمحاكمة رموز النظام السابق والانقسام الطائفي وانعدام الأمن وعدم التأسيس لبناء حقوق الإنسان”، والأهم هو أن إسقاطها النظام كان بفعل دولة عظمى وليس بتأثير حركة جماهيرية مدعومة من قوى سياسية معارضة يضاف إليها تولي سلطة الائتلاف المؤقت لوحدها إدارة عملية العدالة الانتقالية وممارسته سياسة الانفراد وعدم مراعاة طبيعة الظروف في العراق ورفضه الاستعانة بالأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية بتنفيذ إجراءات العدالة الانتقالية كل ذلك ساهم بفشل التجربة في العراق.
الحالة السورية
المشهد في الحالي السورية أكثر تعقيداً بسبب تدخلات دولية لا تزال تفرض واقعاً بالقوة مثل الدعم الروسي الميداني والسياسي والدعم الإيراني القائم على الطائفية ودعم أقليات بعينها على حساب وحدة المجتمع السوري، لذلك تنفيذ آليات العدالة الانتقالية في سوريا خلال فترة قصيرة شبه مستحيل بظل الظروف الحالية ولابد من الأخذ بعين الاعتبار خصوصية سوريا وخصوصية النظام الحاكم ولابد من التدرج بالإجراءات والبدء بما يسمح بإعادة الثقة والمصداقية للعمل والجهود المبذولة في هذا الإطار.
لا نستطيع اسقاط التجارب السابقة بحرفتيها على سوريا بالوقت الحالي لعدم وجود تقنيات التحقيق في جرائم النظام بسبب عدم منح التراخيص اللازمة للمنظمات الحقوقية والقانونية الدولية إضافة لخطورة العمل داخل سوريا وضعف وهشاشة منظمات المجتمع المدني في سورية وتسخير النظام في دمشق السلطات (القضائية والتشريعية والتنفيذية) لخدمة أهدافه.
يمكن البدء بإقامة نظام حكم انتقالي وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وتشكيل لجان للمصالحة الوطنية والسلم الأهلي من أجل تهدئة النفوس وإرساء السلم ومنع حدوث عمليات انتقامية وإعادة الثقة بين مكونات المجتمع وإحداث صندوق لتعويض المتضررين تعطى الأولوية فيه لذوي الضحايا والجرحى وتوثيق كافة المراحل التي مرّت بها البلاد، عندها يمكن ان تبدأ العدالة الانتقالية بسوريا لتحقيق العدالة والحرية والديمقراطية وسيادة القانون.
العدالة الجنائية في سوريا يمكن ان تتم برعاية دولية بعد إنشاء محاكم وطنية خاصة ووضع قانون متخصص يعالج غالبية الدعاوي التي يمكن ان تعرض على هذه المحاكم ،ويمكن من خلال هذا القانون تنفيذ برامج إعادة الحقوق والتعويضات المالية والمعنوية لضحايا الانتهاكات.
أما آلية إصلاح المؤسسات فهي عملية طويلة مهمتها تحويل مؤسسات القضاء والشرطة والجيش والاستخبارات إلى مؤسسات نزيهة في خدمة الشعب والقانون وحفظ السلام لتعود المؤسسات إلى الشعب وتتخلص من سيطرة حزب البعث وأجهزته الأمنية والتي كان السبب فيما آلت إليه سورية.
حملة #ناصر_العدالة
المراجع
(دراسة عن تجربة العدالة الانتقالية في العراق) الدكتور علاء عبد المحسن السيلاوي
دراسة (المجتمع المدني) الدكتور عمار كوسة
دراسة (آليات تنفيذ العدالة الانتقالية خلال مرحلة الانتقال السياسي في سورية). إبراهيم ملكي-مركز حرمون