في أحيائها المتناثرة و بين حاراتها العتيقة، شبّ فيها و كبر و بدأت قصته الحزينة ومأساته، بدأت رحلته القاسية منذ ربيعه الثاني في ساعة متأخرة من الليل استيقظ على صراخ والده ” نريد الإسعاف ساعدونا “، هبّ من فراشه مسرعاً و إذا بأمه الحامل تلد مولوداً جديداً.
حالة الأم سيئة للغاية و لديها نزيف شديد، و هو لا يعي شيئا، فسنه صغيرا جداً، جسمه غض لم يقوى على هموم الحياة بعد، ولم يعش طفولته كباقي الأطفال.
رزقهم الله طفلاً جميلاً و انضمّ للعائلة، يوازي حسن أخيه، عيون زرقاء و شعر أشقر منسدل على خدوده الوردية، كوالدته تماماً، و لكن كانت المأساة أكبر من الفرح بولادة طفل جديد، لقد ماتت الأم، نعم ماتت أثناء ولادتها.
حزن عليها أبوه حزناً شديدا و لكنه لم يلبث أن تزوج بأخرى بعد فترة قصيرة، كانت عكس أمه تماماً، و بدأت قصة معاناة جديدة مع الخالة، لم تكتف بالضرب و حسب بل كانت كثيراً ما تتركهم دون لباس و طعام و شراب، في أقسى ظروف البرد و الشتاء، شتاء قارس في قريته الريفية المتواضعة.
حمل الهموم منذ نعومة أظافره، و حمل المسؤولية أيضاً، وعلى الرغم من صغر سنّه، فقد اعتبر نفسه مسؤولا عن أخيه، مرّت السنون و كبُر و شب و أصبح لديه ثلاثة أخوة من أبيه و ثلاث أخوات، و كان عكس أخيه تماماً، الذي حمل الكره والحقد لخالته.
أما هو فكان طيّب القلب، و محبوباً لدى الناس، و لا يحمل بصدره حقداً أو ضغينة مطيعا لزوجة أبيه، على الرغم من معاملتها القاسية، كما كان مطيعا لوالده، عمل كثيراً في الأرض مع والده و أسرته، و عمل لوحده و لكن أباه منعه من الاحتفاظ بقرش واحد أو حتى بأخذ مصروف له.
اشترى له والده سيارة لنقل الركاب بين المناطق السورية، و كان يذهب أحيانا أياما و ليالٍ كاملة يقضيها خارج المنزل، و عندما كان يعود للمنزل كان والده يأخد كل ما لديه من نقود على الرغم من تعبه طوال اليوم، توالت السّنون و كبُر الشاب و أصبح في سن الزواج، بل و أكثر، فقد تجاوز الثامنة والعشرين من عمره، هنا بدأت خالته برحلة البحث عن زوجة لابن زوجها، بحثت كثيراً و كثيراً، كان الرفض تارة من الفتيات وتارة من الشاب.
أخيراً حظي بفتاة في غاية الجمال و الأخلاق، لا ينقصها شيء، تجيد الطبخ والأعمال الحرفية و النحت، و تمتلك ذكاءً نادرا و لكنها لم تتزوج بعد، على الرغم من كثرة من تقدّم إليها، ” الطيّبون للطيّبات ” تزوجا بمهر متوسط بالرغم من ممانعة الفتاة في البداية من الزواج من هذا الشاب و إقناع الأسرة و من حولها فيه، لأخلاقه وسمعته الحسنة بين الناس .
مرت الأيام وبدأت الفتاة بذكائها ومهارتها تعمل مع زوجها ليلا نهارا، خسرا مبالغَ ماليةً كبيرة و رغم ذلك تابعا و لم ييأسا، عملا بالزراعة وشاركته التعب، من بين مزروعاتهما كان نبات ” العصفر ” كثير التعب و وفير الإنتاج، حصلا في النهاية على مردود جيد و تحويشة العمر، وكانت خراج أراضيهم في قريتهم الصغيرة النائية.
بدأ الشاب يعمل في التجارة و كانت الأرباح كبيرة جدا، و توافد الناس حوله من كل حدب و صوب يطلبون وده و يرجون التقرب منه، و طلبوا تشغيل مبالغ مالية معه،
بقلب طيب و سموح أخذ الأموال وأعطى الفقير و المحتاج وأعطاهم أرباحاً مضاعفة، أحبه الناس وتجمعوا حوله و أصبح علماً في القرية بسبب أمانته، و في ظرف قصير جدا أصبح من وجهاء القرية.
مرت الأيام وأصبح غنيا ميسور الحال، وهنا بدأت الكثير من القصص تدور في خلده، و تغير كثيرا، لاحظت الفتاة تغير زوجها، كانت تشعر بالأسى لأنها أنجبت خمس بنات و لم تنجب صبيّاً، و تتخوف من زواجه عليها بعد أن غرق بالأموال و فتح المشاريع في القرية، و كثرة كلام أصدقائه و إلحاحهم عليه بالزواج ليأتي خليف له بورثته .
أخيرا رزقها الله ولدا جميلا كأخواته بعيون زرقاء و شعر أشقر، غاية في الجمال، لكن فرحتها بهذا الطفل لم تكتمل و دارت رحى الأيام، و مكالمة هاتفية على غير العادة، من زوجها غيرت الكثير، كانت دقات قلبها ترتجف قبل سماع صوت الزوج، و يقول فيها بأنه تزوج، لم تتمالك أعصابها فانهارت على الأرض مغشياً عليها من الصدمة.
سقطت أرضاً وكأن آمالاها و ثقتها دُفنت مع تلك الكلمات، استيقظ أهل القرية على هذا الخبر، و كانت صدمتهم شديدة فقد كانا مثالا للزوجين الناجحَين و رمزا للمحبة والتفاهم بين بعضهما البعض، في تلك الفترة بدأ القصف عنيفاً من مواقع النظام على القرية و محيطها، من كل حدب و صوب، وانصرف الأهالي مسرعين كي ينجوا بأرواحهم و بقيت أملاك هذا الشاب في القرية، و دمّرت معظم مشاريعه و بالكامل، خرج بمال يسير جدا، لعله يستطيع إيفاء ديونه بعد خسارة فادحة، و متابعة عمله بالتجارة تحت الخطر والقصف.
عادت زوجته الثانية لبلدها و بقيت زوجته الأولى تقاسمه هموم الحياة، و تتحمل الخطر والجوع والعطش، كما لم يهدأ باب بيتهم الذي استأجروه من الطرق في أوقات مختلفة من النهار والليل، أشخاص كثر يقصدوه من أجل استرداد أموالهم، كل ما لديه من مال وضعه في مشاريعه، و بقيت في قريتهم والشاب دفع كل أمواله للناس لم يبق لديه مال حتى لشراء الطعام والشراب لأسرته.
عاش أياماً صعبة جداً مع عائلته، تحول الناس إلى وحوش وبدأوا نهش جسده الضعيف المتعب الممتلئ بالأمراض التي لازمته، حيث ابتعد عنه كل قريب كان يمثل له الحب والوفاء بل و أصبح بعداد عدو له بعد إفلاسه و التهديدات من كل ناحية، فما كان منه إلا أن فرّ مع عائلته و أولاده خارج البلد، لأنه لم يعد باستطاعته تحمّل الإهانة والذل .
ففي أيامنا هذه اختلفت الأجيال واختلفت التربية، أصبحت الطيبة عملة نادرة، و أصبحت مفاهيمنا غريبة في الأزمات يُكشف لك عدوك من صديقك و هذا فضل من الله، لتدرك حجم الوهم الذي كنت تعيشه و لو كان ذلك متأخراً، فهو درس للأيام المقبلة ليزداد إيمانك بالله وإحساسك بنعمه وفضله عليك، و أن الله وحده هو المغني عن جميع خلقه .
بقلم : سهير إسماعيل
المركز الصحفي السوري