لم تخف القرمازي أن إعاقتها التي ولدت معها هي التي حفزتها على ابتكار هذا التطبيق، فسر ذكائها الذي ميزها عن غيرها من الأطفال جعلها تصنع من النقص الذي تشكو منه في السمع عامل قوة بمساعدة أسرتها متوسطة الدخل التي تتكون من أربعة أفراد وتقطن بمحافظة صفاقس (جنوب تونس).
ويمكّن التطبيق -الذي يمكن لأولياء الأمور تنزيله مجانا- الأطفال من التدرب على النطق عبر أربع مراحل تبدأ بتعلم الحروف ثم الكلمات، فالاستماع إلى الموسيقى، وصولا إلى مرحلة البحث عن أصدقاء.
ويحمل التطبيق اسم “L’orthophonie contemporaine” الذي يعني بالعربية (علم النطق المعاصر).
التطبيق الذي طورته القرمازي يشمل أربع مراحل تبدأ بتعلم الحروف ثم الكلمات فالاستماع إلى الموسيقى وصولا إلى مرحلة البحث عن أصدقاء (الجزيرة) |
تجربة شخصية
بين ركام الكتب المتناثرة في كل مكان تقضي القرمازي جل وقتها بين البحث عن أفكار تفيدها تارة، والتقصي عن داعمين لفكرتها بين مواقع الإنترنت تارة أخرى، دون أن يثنيها ذلك عن مواصلة دراستها في المرحلة الثالثة من التعليم العالي بالمعهد العالي للفنون والحرف.
صور كثيرة تعج بذاكرتها، أهمها حيرة أسرتها التي لم تستوعب أنه لا يمكنها النطق، وأنه يتوجب عليها تعلم لغة الإشارات، ولربما هم لا يعرفون أن ذلك هو الدافع القوي الذي يقودها اليوم لتطوير اختراعها من أجل مساعدة الأطفال الذين تقاسمهم الإحساس نفسه بعدم القدرة على السماع والنطق بطريقة طبيعية.
ما زالت القرمازي تستحضر المجهود الكبير الذي بذله والداها لمساعدتها على تجاوز إعاقتها، وأصرا على علاج مشكلة السمع والنطق لديها من خلال المواظبة على حصص تقويم النطق وارتداء آلة السمع، وإدخالها روضة أطفال ومدرسة ومعهدا غير خاصين بذوي الإعاقة، رافضين أن تكتفي بلغة الإشارات.
تقول القرمازي للجزيرة نت “ابتكرت هذا التطبيق لأنني ولدت بمشكلة في السمع، ورغم ذلك استطعت الاندماج في المجتمع، لكن ما آلمني حقا أنني لاحظت حالة توحد رهيب لدى الأطفال حاملي هذه الإعاقة، لذا بات هاجسي مساعدتهم في التأقلم والاندماج في المجتمع بواسطة هذا التطبيق المجاني”.
القرمازي تأمل أن تشاهد الأطفال المعاقين سمعيا قادرين على التواصل مع محيطهم دون خوف (الجزيرة) |
تكريم دولي
بنظرات ثاقبة تحصي القرمازي عدد الصور التي التقطتها في عاصمة الأضواء باريس، وفوق مكتبها الصغير علقت ميدالية ذهبية وكأسا حصلت عليهما خلال مشاركتها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في جائزة إيفل الدولية الكبرى للاختراع والابتكار بضاحية إيفري الباريسية.
صبرها الطويل وحبها الإنساني جعلا إعاقتها حافزا لنجاحها بعد تكريمها في باريس ودعوتها رسميا لتمثيل تونس ببلجيكا في مجال الاختراع.
وتقول القرمازي إنها تريد أن تمنح الأمهات اللاتي يعملن ولا يجدن الوقت الكافي لتعليم أطفالهن النطق فرصة فعل ذلك من خلال اختراعها.
بأناملها الصغيرة تتصفح هاتفها الخلوي، وأملها الوحيد أن يصبح تطبيقها بين يدي كل أطفال العالم الذين يعانون من مشاكل في السمع والنطق، وعن طريقة استخدامه -تضيف القرمازي للجزيرة نت- أن الولوج إليه يكون عبر البريد الإلكتروني للولي، مما سيوفر فضاء للتواصل بين أولياء هؤلاء الأطفال.
القرمازي مع مخترعين في مسابقة إيفل الدولية (الجزيرة) |
إهمال الكفاءات
على الرغم من الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه المبتكر في نهضة المجتمع فإن المبتكرين في تونس يواجهون تحديات عدة تتعلق خاصة بإهمال الدولة، مما يجعل المبتكر يلجأ إلى البحث عن جهات أخرى خارج الوطن لمساعدته في تحويل اختراعاته من أفكار إلى منتجات يستفيد منها المجتمع.
ويؤكد ذلك رئيس الجمعية التونسية للبحث العلمي والابتكار والملكية الفكرية أمين الغرياني في تصريحه للجزيرة نت، مضيفا أن المخترعين يواجهون مشاكل في تمويل أفكارهم، وعلى الرغم من الإغراءات التي تقدمها الجهات الخارجية فإنهم يختارون البقاء في تونس التي لم تساعدهم، وفق تعبيره.
ويقول رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مسعود الرمضاني للجزيرة نت إن نزيف الأدمغة في تونس يتواصل منذ عقود، وإن البلاد تخسر الكثير من الكفاءات بسبب عدم تشجيعها، وهو أمر سلبي بالنسبة لمستقبل البلاد في ظل غياب جهات رسمية تساعد تلك الكفاءات على تطوير اختراعاتها.
ووفق تقرير أنجزه المرصد الاجتماعي التونسي التابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا بعد سوريا في هجرة الكفاءات العلمية، حيث سجلت وزارة التعليم العالي خلال السنوات الماضية مغادرة 94 ألف كفاءة، 84% منهم توجهوا إلى البلدان الأوروبية.
تغلق القرمازي حاسوبها، وحلمها الوحيد أن تستيقظ ذات صباح على وقع سعادة رؤية كل الأطفال الذين قاسمتهم شعور إعاقة السمع لسنوات، يسمعون ويتكلمون بشكل طبيعي، على أمل أن تساعدها الدولة في هدفها الإنساني النبيل.
نقلاً عن :الجزيرة