“إنها فكرة جذّابة جدا، أن تكون هناك لغة أصلية مُختبئة، تتسرّبُ إلى تلك اللغة التي يكتب بها الكاتب: تؤثر فيها وتعيد تشكيلها”، هكذا تصف الكاتبة الأميركية ويندى ليسير فكرة كتابها “عبقرية اللغة” وهي تدور حول تأثيرات اللغة الأم في عقل ووجدان الكاتب الذي يبدع بلغة غيرها، فحكاية اللغة الأم ليست مسألة لسانية أو أدبية فحسب، بل هي مسألة تمسُّ حياة الناس وشعورهم تجاهها. ولأن هذه الحياة تضمنت انتقالا، قد يكون قسريا في غالب الأحيان، من بلاد إلى أخرى ومن عائلة إلى أخرى أو من ثقافة إلى أخرى، فإن قصتها ستحكي لنا عمّا هو أكبر وأوسع أفقا من القضايا التاريخية والسياسية التي تزامنت معها.
تستحضر ويندى ليسير خمسة عشر روائيا كتبوا باللغة الإنكليزية بينما هم أبناء لغات أخرى، ولم يكن من بينهم جوزيف كونراد الروائي البولندي الأصل، والذي كتب بالإنكليزية وصار واحدا من أهم روائييها، وقال عنها “لم تكن الإنكليزية بالنسبة إليّ قرارا ولا اختيارا. ولم ترد حكاية الاختيار وسطحيتها في ذهني أبدا. كما أنني لم أقرر تبنّيها. لقد كان هناك فعلا حدثُ تبنّي، ولكن عبقرية اللغة هي ما تبناني، لقد أخذتْ بيدي مباشرة بعد مرحلة التمتمة الأولى وجعلتني ابنا لها بشكل كامل”.
الكتّاب والقطط
ذكرت ويندى ليسير أن جوزيف كونراد أول اسم قفز إلى ذاكرتها وهي تناقش مع نفسها فكرة الكتاب، لكنها لم تضمه لقائمة من طلبت شهاداتهم، لأنه توفي قبل ذلك بثمانين عاما، تاركا لها شهادته عن ثنائية اللغة، وموحيا لها بعنوان كتابها حينما استخدم جملة ”عبقرية اللغة”، في معرض حديثه عن الإنكليزية؛ واصفا الحالة التي يشعر فيها أن اللغة الإنكليزية قد احتوته وألقت عليه رداءها، عبر الكتب أو الأفلام أو الناس. لذلك سألت الكتّاب عن الفروق بين لغاتهم الأصلية واللغة المتبناة، وكان هدفها من تحليل شهاداتهم عن اللغة الأم أن تكشف الحجاب عن ذلك النبع الفكري الثري الذي يستقي منه كتّابٌ كبار نصوصهم؛ والتنقيب داخل كل الطبقات الممكنة لمعرفة الطبيعة الموروثة، وقيمة الأصالة والعبقرية في الكتابة.
وقد توقعت الكاتبة ألاّ تجد الشيء نفسه عند الجميع وألا تتشابه الإجابات، فالكتّاب كما تقول عنهم “مثل القطط، لا يعيشون في قطيع. ولو أن الكتّاب كانوا قطيعا متشابها، لأصبحت الحياة والعمل مع الكتابة مصدرا للملل”.
المقارنات بين اللغات دائما ما تجعل إحدى اللغتين التي تنشأ بينهما المقارنة معيارية ومحدّدة للمنطق الذي يُحتكم إليه
يُحدّثنا كُتّاب “عبقرية اللغة”، الصادر عن دار أثر السعودية بالتعاون مع الموسوعة العالمية للأدب العربي بترجمة حمد الشمري، عن تجاربهم الخاصة مع اللغة وداخلها، ويؤكدون على أن هناك دائما لحظة لغياب لغة وحضور أخرى؛ ثنائية مسكونة بالتشظي غالبا، وبحسب تعبير الروائية الأميركية ذات الأصول الصينية أيمي تان “المقارنات بين اللغات دائما ما تجعل إحدى اللغتين معيارية ومحدّدة للمنطق الذي يُحتكم إليه؛ ويلزم من ذلك أن تكون اللغة الأخرى محلّ اتهام وقصور”، وهي ترى في التعدد اللغوي انشطارا، فتتساءل أي من اللغتين شكلها: هل اللغة الإنكليزية المكتسبة أم اللغة الأم الصينية؟
وتحاول تان تفكيك الانطباع السائد عن الصينيين بأنهم لهم خصوصيتهم وحياؤهم، وذلك لافتقار اللغة الصينية لمفردتين مثل “نعم” و”لا”. وتتساءل الكاتبة عن أي عقل تتعامل معه عندما تفكر وهي بين اللغتين. ويجرّها هذا الارتباك إلى الابتعاد عن فكرة المقارنة.
أما الروائي الكيني نجوجي وا ثيونجو الذي كتب شهادته بعنوان “إحياء الأصل” فيبدأ بتذكر ما تعرّض له من الجلد الذي مزق ثيابه وأدمى جسده ومطالبة من يعاقبونه له بأن يصرخ مثل القرد، كل ذلك لأنه تحدث في المدرسة التبشيرية بلغته المحلية، وكانوا يدفعون التلاميذ الصغار إلى التجسس على زملائهم والإبلاغ عمّن يرتكب جريمة التحدث بلغته الأفريقية.
يقول نجوجي ”تمتعت بالإنكليزية رغم قسوة كل تلك الأحكام، لكن مشهد صراخ الطالب ظل يطاردني حتى خارج أسوار المدرسة كلما تكلمت بالجيكويو، اللغة التي أثنى عليّ المعلمون يوما حين أحسنت الكتابة بها، لكنهم كانوا على خطأ، وخسروا جميعا وظائفهم حين قرر المستعمر إعلان أهمية اللغة الإنكليزية”.
حكاية كتاب مع اللغة
ويستطرد نجوجي “لم أعد أؤمن بقدرة لغتي على أن تعلمني شيئا، أو على الأقل بقدرتها أن تجعل مني إنسانا متعلما وعصريا، وكان الدم نصيب أولئك الطلاب الذين تكلموا بالجيكويو، وكان المجد نصيب الآخرين الذين أظهروا تمكنهم من الإنكليزية. هذا وقد نشأت على أن أباعد بيني وبين الدم، وبيني وبين لغتي باحثا عن المجد اللازم لإتقان الإنكليزية”، وهكذا كتب نجوجي عن الجيكويو بالإنكليزية، مؤمنا بأن لكل لغة عبقريتها، وقد سلب الكثير من عبقرية الجيكويو ليضيف العبقرية المغتصبة إلى الإنكليزية.
طريق العودة
أما بهارتي موكرجي الأميريكية- الهندية فتروي حكايتها مع اللغة البنغالية، الموعودة والموؤودة معا، أو لغة “الجوع والفقر” كما يسميها العاملون في الإغاثة الدولية، لكنها تراها لغة المشاعر واللهفة، وتصفها بأنها أكثر لغات العالم تعبيرا وخيالا وذكاء.
تقول موكرجي إنها ورثت لسانا يحمل الكثير من المتناقضات والمفارقات، وقد لازمتها قدرة المفردات البنغالية على حمل المعاني المتضادّة حتى وهي تكتب رواياتها بالإنكليزية. وقد وعت تناقضات الثنائية اللغوية منذ التحقت بالمدرسة، كانت تتكلم البنغالية في البيت والإنكليزية في المدرسة، لكن الصدمة أنها اكتشفت وهي في المدرسة البيضاء أنها تمثّل الأقلية ذات البشرة السمراء، أما الآن فهي تحاول أن تُذيب كل الحدود الثقافية بين الموروثات التي عاشتها.
وترى موكرجي أن مفهوم الزمن السائل الذي ورثته عن البنغالية، والواقعية السحرية التي ورثتها من الملاحم الهندية أرشداها إلى الكتابة عن المهاجرين في مدن الولايات المتحدة، بلغة جديدة هي الأميركية كلهجة منحرفة عن الإنكليزية التي تعلمتها كمعيار للغة الصواب، وبحسب تعبيرها كان ذوبان لغتها الأم هو ما صنع الكيكة، وكان هو طريق العودة وفي ذات الوقت طريق المضيّ قُدما نحو فقدان الذات.
نقلا عن صحيفة العرب