صوت انفجارات متتالية، تبعه هدوء مخيف عمّ أجواء الحي، ماهي إلا لحظات وارتفع صراخ النساء وبكاء الأطفال. أشلاء تناثرت والدماء اختلطت مع أمطار الشوارع، رائحة الموت تفوح في كل مكان، أما بقايا الحي فتبعثرت فيه خضراوات محترقة من بسطة الحي التي غدت رماداً خلال لحظات.
أثناء تجولي في حي الصناعة بمدينة أريحا لرؤية ما خلفته صواريخ البارحة من دمار، رأيت طفلاً بجوار منزل مهدم ألقى بنفسه على جدار متهالك وأمسك قطعة قماشية مليئة بالدماء، اقتربت من الطفل وإذا بدموعه ملأت وجهه البارد.
بقيت جالسة حتى أحسست بهدوئه، فسألته عن حاله واسمه، فأجاب بحزن “اسمي أحمد، استشهد أبي وأمي البارحة هنا في هذا المكان”،
ورفع الثوب الممزق قائلاً “وهذا شال أمي الذي كانت تضعه على أكتافها” .
أحمرت عينا أحمد و أغرورقتا بالدموع لكنه تمالك نفسه .. أبي بائع على بسطة خضار في الحي.
انقطعت عن دراستي أنا وأخي إبراهيم حتى نساعده في العمل، فالحال صعب ونحن إخوة ثمانية، فكانت تلك البسطة مصدر رزقنا.
انهمرت دموع أحمد كالشلال دون توقف وهو يقول “البارحة أشعلنا مدفئة الحطب قليلاً وتجمعنا أنا وإخوتي حولها، فخرجت أمي تنادي أبي ليشاركنا الدفء، وفجأة بدأت الصواريخ تسقط حولنا من كل الجهات، والدخان ملأ الحي، فأسرعت أمي تطمئن على أبي دون خوف أو تفكير، فسقطت صواريخ أخرى مجدداً.
عشنا لحظات وكأنها القيامة رأيت إخوتي الصغار اختبأوا تحت الأغطية ظنا منهم أنها ستحميهم …
تركتهم خلفي وركضت إلى الخارج، فرأيت المشهد الذي انزرع في مخيلتي حتى الممات. كانت أمي غارقة بدمائها وأبي في الجانب الآخر دون حراك.
أخذت قدما أحمد تهتز بتوتر قائلا: لم أتمالك نفسي فبدأت أصرخ وأبكي، وأسودت الدنيا في وجهي.
مرت دقائق وأنا مذهول وغير قادر على تصديق الموقف حتى قدم رجال يرتدون زي الدفاع المدني، و حملوا جُثْمانَيْ والدَيَّ من أمامي، وأخرجوني مع إخوتي إلى مكان آمن.
يكمل أحمد” بدا الجميع حولي كالخيال والوهم، أرى بعضهم يتكلم مشيرا إلينا بشفقة، والآخر يلتقط صور دموعي، والبعض يواسينا ويحاول التخفيف عنا. لكنّي لم يكن لديّ تركيز أو استماع لأي أحد، فقد بقي نظري وسمعي عالقَيْنِ في مشهد مقتل أبي وأمي هناك .
بعد ساعات عدت مع إخوتي إلى منزل جدي؛ لأحتضن إخوتي الصغار وأحاول النوم الكاذب لأول مرة دون وجود والدَيَّ وصوتهما الدافئ حولنا، فقطع تفكيري سؤال أخي الصغير أين أمي متى ستعود!!!
بقلم : سهير اسماعيل
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع