في نهاية عام 2016 أجرى معهد غالوب إنترناشيونال “وهو غير معهد غالوب الأميركي في واشنطن” دراسة شملت 66 بلدا، لمعرفة رأي شعوبها في ثلاثة تساؤلات: 1 ـ هل تعتقد أن هناك دينا أسمى من الآخر؟ 2 ـ هل تعتقد بوجود عرق أو شعب أفضل من الآخر؟ 3 ـ هل تعتقد بوجود ثقافة متفوقة على بقية الثقافات؟
لم تشمل هذه الدراسة من المنطقة العربية سوى لبنان والأراضي الفلسطينية “الضفة الغربية وغزة”، لصعوبة إجراء مثل هذه الاستبيانات في الكثير من الدول العربية لأسباب تتعلق بطبيعة الأنظمة العربية، ولكن المتوقع أن تكون النتائج في بقية الدول العربية غير بعيدة عن تلك التي خرجت بها من المناطق الفلسطينية ولبنان.
أشارت نتائج الاستبيان إلى أن غالبية شعوب الدول التي تم استطلاع آرائها لا تعتقد بوجود تفوّق لعرق أو دين أو ثقافة على أخرى، في حين انقسمت الآراء عند شعوب عشر دول حول هذه القضايا، وكان هناك عشر دول اعتبرتها الدراسة حالات استثنائية نتيجة إيمان أغلبية شعبية فيها بوجود دين وعرق وثقافة متفوقين على ما سواهم.
وكان من اللافت أن الدول الخمس الأولى في الترتيب والتي قال أغلبية المستطلعة آراؤهم فيها إنهم مؤمنون بتفوق دينهم وشعبهم وثقافتهم كانت حسب التسلسل، 1 ـ بنغلادش؛ 2 ـ الأراضي الفلسطينية؛ 3 ـ غانا؛ 4 ـ لبنان؛ 5 ـ نيجيريا؛ بينما كان ترتيب الدول الخمس التي يعتقد أغلب سكانها أنه لا توجد فروق بين الأديان والشعوب والثقافات 1 ـ السويد؛ 2 ـ فرنسا؛ 3 ـ أيسلندا؛ 4 ـ الأرجنتين؛ 5 ـ كندا.
كلما ساءت أحوال الشعوب كلما استفحل شعورها بالتفوق حتى يصل أحيانا إلى “وسواس العظمة”
ففي بنغلادش كان 81.8 في المئة من المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن دينهم أسمى من بقية الأديان، و74.8 في المئة يعتقدون أن الشعب البنغالي خير من بقية الشعوب و75.7 في المئة يعتقدون أن ثقافتهم أفضل من الآخرين، وقال 74.7 في المئة من الفلسطينيين أن دينهم أفضل، و78.1 في المئة منهم يعتقدون أن الشعب الفلسطيني متفوّق على بقية الشعوب وكانت هذه أعلى نسبة في هذا البند بين الدول الستة والستين، و76.1 في المئة منهم يرون أن ثقافتهم أعلى، في حين قال 56.6 في المئة من اللبنانيين إن دينهم أفضل و 67.6 في المئة إن شعبهم أفضل، بينما قال 80.9 في المئة من اللبنانيين إن ثقافتهم متفوّقة على بقية الثقافات وهي أعلى نسبة تم تسجيلها في هذا البند.
بينما في الولايات المتحدة التي يكرر إعلام المنطقة العربية الحديث عن انتشار العنصرية والتعصب فيها كان 61.1 في المئة من الأميركيين يعتقدون أن دينهم ليس أفضل من بقية الأديان، و73 في المئة منهم يرى أنه لا يوجد عرق أفضل من الآخر، و58.3 في المئة منهم لا يرون أن هناك ثقافة أفضل من غيرها من الثقافات. إذا هناك أغلبية شعبية في الولايات المتحدة التي يتكلم ربع سكان العالم الإنكليزية حسب لهجتها ويعيش على اختراعاتها ويلبس على طريقتها ويشاهد أفلامها ويردّد أغنياتها ويحفظ أسماء نجومها وينتظر حفلاتها ومهرجاناتها لا ترى أنها أفضل من غيرها، ولكن نفس الدراسة أظهرت وجود بين 10 و15 في المئة من الأميركيين يؤمنون بشدّة بتفوقهم عرقيا أو دينيا أو ثقافيا على الآخرين، ورغم أن نسبتهم قليلة لكن الإعلام يتصيّد دائما أخبارهم.
ونتيجة لذلك فقد توصل الاستبيان إلى الخلاصة التالية: “العوامل الرئيسية التي تنمّي شعور بعض المجتمعات بالتفوّق هو إما معاناتها من مشاكل وأزمات داخلية حادة، أو من عدم استقرار خارجي يترافق مع مخاوف من انتقاله إلى الداخل، أو لأنها تشهد تحولات مجتمعية عميقة تؤدي إلى شعور جمعي بعدم الأمان”، ومثالها بنغلادش والأراضي الفلسطينية ولبنان، بينما الدول التي تشعر بالأمان والاستقرار لا تعتقد بوجود تفوق لدين أو عرق أو ثقافة على أخرى مثل السويد أو فرنسا، أما الدول التي تشهد انقساما في الآراء فقد اعتبرتها الدراسة دول تمر في مرحلة تحوّل مجتمعي، وكان منها روسيا والهند، ولكن نتيجة هذه الدراسة طرحت تساؤلا آخر وهو ما هي الأسباب التي تدفع شعوبا تعاني من أزمات عميقة إلى هذا الشعور الزائف بالتفوق.
أحد الأسباب المحتملة أن هذا الشعور بالتفوق يرجع إلى آليات نفسية تعويضية يلجأ إليها بعض الأفراد كطريقة للهروب من الظروف الصعبة التي يعيشونها، والسبب الآخر هو الجهل بأمور العالم الخارجي أو معرفته بشكل مشوّه، والذي يكون في أغلب الأحيان نتيجة عمليات مقصودة تهدف للتقليل من شأن الشعوب الأخرى وقيمها وطريقتها في الحياة وتبخيس معتقداتها وعاداتها وثقافتها، يقوم فيها رجال الدين عبر مهاجمة أو ازدراء الديانات الأخرى أو تكفيرها.
كما يقوم فيها سياسيون وحكّام بتصوير أسلوب حياة بقية الشعوب بشكل سلبي عبر وسائل الإعلام وفي مناهج التعليم في محاولة لإيقاف تطور مجتمعاتهم، فيجعلون مثلا من نيل المرأة لحقوقها وحريّتها إباحية، ويجعلون من اعتنائها بجمالها وأناقتها تسليعا لها، ويشككون بوجود نظام ديمقراطي حقيقي في بقية دول العالم، ويروّجون إلى أن هذه الديمقراطية ليست سوى كذبة ومسرحيات يتم الإعداد لها وتنفيذها دوريا بإتقان لخداع الشعوب مع أن نتائجها تكون معروفة مسبقا حسب زعمهم وذلك لتبرير أنظمتهم الديكتاتورية.
أحد الأسباب المحتملة أن هذا الشعور بالتفوق يرجع إلى آليات نفسية تعويضية يلجأ إليها بعض الأفراد كطريقة للهروب من الظروف الصعبة التي يعيشو
ومن الممكن مشاهدة أمثلة عن هذا الشعور بالتفوق في الكثير من الدعاوى التي يرفعها محامون، أو في أحكام يصدرها قضاة في الدول العربية يذكرون في حيثياتها أن ما قام به المتّهمون “لا يتماشى مع قيم وأخلاق مجتمعاتنا” ومعنى هذا الكلام أن القيم في الدول العربية البائسة أفضل من القيم والأخلاق في بقية دول العالم، وكذلك من الممكن مشاهدة ذلك في الطريقة التي تصف فيها المواقع الدينية سعي بعض المجتمعات العربية للحاق ببقية العالم حيث يتم اعتبار ذلك “تغريبا بهدف إلى إلغاء الشخصية المستقلة والخصائص المنفردة للشعوب العربية بهدف القضاء على القيم العليا الحاكمة للحضارة العربية والإسلامية”، وكلها مفردات تعبّر عن هذا التفوق الذي لا يوجد إلا في خيال هؤلاء.
ومن الصعب النجاح بترويج مثل هذه المفاهيم بدون إيهام العربي المحروم من جميع حقوقه السياسية والاجتماعية والثقافية بأنه متفوق بمورّثاته التي يحملها في تكوينه على الآخرين، وأن ثقافته هي الأعلى ودينه هو الأفضل وأن سبب تآمر العالم عليه هو الحسد والغيرة، ولكن هذا الشعور بالتفوق يصطدم في هذه الدراسة مع حقيقة أن شعوبا أخرى بائسة تشترك مع العرب في نفس الشعور بالتفوق مثل بنغلادش وغانا ونيجيريا، مما يحرج هؤلاء لأنهم في قرارة أنفسهم يضعون أنفسهم في مكان أعلى من هذه الشعوب.
ويبدو أنه كلما ساءت أحوال الشعوب كلما استفحل شعورها بالتفوق حتى يصل أحيانا إلى “وسواس العظمة” وهو حالة غير صحية تتجلّى بمبالغة الإنسان في وصف ذاته فينسب لنفسه امتلاك قدرات استثنائية أو مواهب مميزة لا وجود لها على أرض الواقع، والتي قد تصل في الحالات الشديدة إلى الهذيان والشعور بالعظمة المترافق مع القناعة بأن الآخرين يحاربونه ويضطهدونه بسبب هذه العظمة المزعومة، والتي تقود إلى مشكلة أخرى وهي انتشار مشاعر الغضب وثقافة الكراهية التي تنتشر بشكل واسع في المنطقة العربية وهي مظهر خطير لأنه يشكّل تربة خصبة للتطرّف والإرهاب، والخطوة الأولى لمواجهة كل ذلك وكسر هذه الحلقة المرضيّة المفرغة هي إقناع شعوب هذه المنطقة بأنهم ليسوا أفضل من غيرهم.
نقلا عن الحرة