“دخل عليّ واحد من العناصر وأخدني لحمامات خاصة بالعناصر، وطلب منّي أتحمم. بمجرّد ما خلصت رجّعني على السجن نفسه، وربّطلي إيديّي ورجليّي بالسرير. خلص هون تأكدت إنّه في شي حيصيرلي. بعد ساعات دخل (أ.ب) واغتصبني، وبعدها أمر العناصر باغتصابي؛ كنت شايفتهن صافّين بالدور ورا بعضهن، كانوا خمسة”. هنا شهادات لناجيات تعرضن لانتهاكات جنسية بالغة في سجن جورين وسط سوريا.
باتت مراكز الاحتجاز في سوريا كالسجون المدنية ومقرات الأفرع الأمنية غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة للمعتقلين الذي لا رقم دقيق له لكنه يقدر بـ144 ألف معتقل حالياً، في حين تقول تقديرات أخرى أنه بلغ الـ 225 ألف خصوصاً في السنوات الأولى من الثورة السورية.
أعداد المعتقلين الكبرى جعلت النظام السوري يعمد الى تحويل عدد من المدارس والملاعب الرياضية وبعض الابنية إلى معتقلات سرّية. وهذه أيضاً لم تعد تكفي أعداد المعتقلين التي تزداد يوماً بعد يوم منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، لذلك عمل نظام بشار الأسد على تحويل مساحات شاسعة من الأراضي الى معسكرات احتجاز.
من بين هذه المراكز برز معسكر وسجن “جورين” سيئ الصيت الذي وثقت شهادات لناجيات منه كيف تمارس فيه عمليات “استعباد جنسي” وذلك كسلاح حرب لتحطيم كل من يعارض منظومة الحكم.
تحقيق: عبد الغني العريان
تحرير وإشراف: علي الإبراهيم (SIRAJ)، فريق صوت بودكاست
أُنجز هذا التحقيق بإشراف الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج، وبالشراكة مع صوت بودكاست ونشر بالعربية على موقع درج ميديا. شارك في عملية البحث الزميلة زينة يوسف.
” بدي أنتحر…” بهدوء واقتضاب شرحت لينا (29 سنة)، وهي شابة سورية تعيش في أحد مخيمات النازحين في شمال سوريا سبب الدماء التي تسيل من وريدها، بعد سؤالها عن السبب بعد نجدتها من مقربين لها ونقلها للعلاج.
جواب الشابة حصل خلال حديث معد التحقيق معها حيث التقينا بها صدفة في إحدى النقاط الطبية ضمن مخيمات ريف ادلب. وهي ليست المرة الأولى التي تنجو فيها لينا (اسم مستعار) من محاولة الانتحار. تجلس الصبية متعبة، فيما تضغط أمها تضغط يدها بقوة لإيقاف النزيف وترمقها بنظرات محاولة منعها من إكمال الحديث.
تمت معالجة لينا من جروحها، لكن قصتها كانت شرارة لبحث طويل كشف تفاصيل صادمة عن شبكة “استعباد جنسي” تنشط في بعض سجون النظام السوري، بحسب شهادات ناجيات وبحسب وصف نشطاء وحقوقيين، قابلناهم في هذا التحقيق.
وقد تقاطعت شهادات الناجيات على ذكر اسم ضابط سوري في سجن جورين والذي انتشرت أنباء عن مقتله في ظروف غامضة قبل أسابيع قليلة من نشر هذا التحقيق.
حكاية لينا
عام 2014، كانت الثورة السورية دخلت عامها الثالث وسط تصاعد كبير للعنف بسبب إصرار النظام على قمع الاحتجاجات وسقوط ضحايا واعتقال وسجن مئات المعارضين والنشطاء والناشطات.
كانت الاعتقالات عشوائية وتحدث بدون سبب واضح.
وقد اعتقلت لينا في أيار/ مايو 2014 عند حاجز جورين العسكري التابع لمنطقة سهل الغاب في محافظة حماة وسط غرب سوريا، وهي في طريقها من محافظة إدلب مسقط رأسها إلى جامعة تشرين في مدينة اللاذقية غرب البلاد.
بعد ثلاثة أسابيع أمضتها في سجن منفرد في معسكر جورين (مقر خدمي ومدرسة تم تحويلها لمعتقل) نُقلت الفتاة إلى سجن جورين للتحقيق معها، حينها تعرضت الفتاة لانتهاكات مختلفة بداية من التحرش والتعذيب وصولاً للاغتصاب واجبارها على العمل الجنسي في سجن جورين العسكري، بحسب ما أفادت معد التحقيق.
بحسب شهادة لينا ونساء أخريات التقينا بهن في سياق إعداد هذا التحقيق تكرر ورود اسم ضابط سوري بوصفه المشغل الأساسي للسجينات، “بعد وصولي إلى قسم النساء بسجن الأمن العسكري، المقام ضمن مدرسة إعدادية، حطّوني بـ(المنفردة) شي 3 أسابيع ورا بعض. وبعدين طلبوني للتحقيق… كانوا إيديّي مربوطين وعيوني مطمّشين.دخّلوني غرفة التحقيق، ولمّا شالوا الغطا عن وجهي… وقتها هنيك التقيت لأول مرة بـ (أ.ب) وهو الضابط المسؤول. طلب منهن يفكّوني ويطلعوا من الغرفة.
قلي تقدري تقعدي لبين ما يجي فنجان الشاي اللي طلبتلك ياه. هون أنا اطّمنت شوي، فكرت عيلتي تدخّلت أو دفعت مصاري لحتى اطلع من السجن، بس بعد شوي بدأ يحط إيده عليّ، ولمّا قاومته قاللي إنه أحسن ما قاومه واعمل اللي بقلّي عليه، وهدّدني إنه راح اتعرض للتعذيب وراح يخلي جميع العناصر يغتصبوني كل يوم. لمّا رفضت، طلب من السجان إنه يبدأوا عملية التعذيب. اكثر من خمس ايام ورا بعض كان يتم تعذيبي ساعات متواصلة، تعرّضت للشبح، وخلال الشبح كان يدخل واحد من العناصر ويتحرش فيني بإيده ويمارس العادة السرّية قدامي. ولمّا يطلع يجي السجان يسألني إذا قبلت بشروط الضابط ولا لأ.
كان جوابي لأ دائماً. بعد شهر حوّلوني من سجن المنفردة على مهجع، كان فيه أكثر من 20 سيدة، عرفت بوقتها إنه هدول النساء رفضوا طلبات (أ.ب)، وخبّروني إنهن هون منسيين من أكتر من سنة.”
الوقائع التي وصفتها لينا في شهادتها حصلت في سجن جورين، ويعتبر معسكر جورين، والذي يضم سجناً سرياً واحداً من أكبر معسكرات النظام غرب سوريا ويبعد من مركز مدينة حماة 90 كيلومتراً، ويبعد من قرية جورين الموالية للنظام السوري حوالي 3 كم (في أطراف القرية)، ويعتبر المعسكر الأكثر تحصيناً حيث يتم منه قصف المدن والقرى في أرياف حماة وإدلب واللاذقية، وفيه 13 بناء بارتفاع 3 طبقات للبناء الواحد ومحصن بالسواتر العالية والدشم.
أنشأ معسكر جورين رفعت الأسد (شقيق رئيس النظام السوري السابق حافظ الأسد) وكان يطلق عليه اسم معسكر سرايا الدفاع وتحول بعدها إلى ثانوية زراعية، وفي 2012 أعيد استخدامه كمعسكر ومركز تجمع للمعتقلين من حواجز سهل الغاب إلى معسكر دير شميل، يضم سجناً سرياً يسمى سجن معسكر جورين، ويخضع هذا المعتقل للأمن العسكري والمخابرات الجوية وميليشيا الدفاع الوطني.
مديرة قسم المعتقلين في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، أكدت أن سجن جورين معسكر احتجاز غير رسمي، وبدأت الشبكة رصده في نهاية عام 2012. بحسب الخطيب فإن الشبكة وثقت اختفاء حافلات تقل مدنيين خلال مرورها في المنطقة المحيطة بالسجن، وترجح أن نقاط التفتيش التابعة للسجن تقف وراء عمليات الاحتجاز والخطف.
الاستعباد الجنسي؟
خرجت الشابة لينا من معتقل جورين بعد أكثر من ثلاث سنوات تعرضت خلالها لجلسات تعذيب و”استعباد جنسي“، إذ أُجبرت ومعتقلات أخريات على ممارسة الجنس لقاء أموال يحصل عليها المشغلون وهم بشكل أساسي ضباط في مراكز الاعتقال.
خرجت لينا فيما لا تزال عشرة آلاف و556 سجينة قيد الاعتقال أو الإخفاء القسري، 90 في المئة منهن في سجون ومعتقلات النظام السوري، حسبما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
بحسب الأمم المتحدة يشير مصطلح “الاستعباد الجنسي” إلى الاغتصاب والتجارة الجنسية، والبغاء القسري، والحمل القسري، والإجهاض القسري، والتعقيم القسري، وغيرها من أشكال العنف الجنسي التي تحمل الأثر ذاته الذي تتعرض له النساء والرجال والفتيات والفتيان، سواء كان ذلك تعرضاً مباشراً أو غير مباشر، مما يتصل بالعنف اتصالاً موقتاً أو جغرافياً أو عرفياً.
الاعتقال في سجون النظام السوري هو مرحلة أولى من سلسلة انتهاكات أُبلغ عنها سواء تلك التي تم استخدام الاغتصاب كجزء روتيني من محاولات المحققين لانتزاع اعترافات في مراكز الاعتقال، أو الاغتصاب والتحرش الجنسي في أكثر من 30 مركز اعتقال تابعاً للنظام السوري بحسب تقرير الشبكة السورية الصادر نهاية عام 2021.
شكلت حالة لينا دافعاً لفريق من الصحافيين والباحثين للبحث عن ناجيات يشاركن الشابة المعاناة ذاتها.
تمكّن صحافيون في الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية السورية، “سراج”، بالشراكة مع فريق صوت بودكاست، وموقع “درج” من الوصول إلى سبع حالات لسيدات ناجيات من سجون النظام السوري حيث تعرضن لانتهاكات جنسية بالغة في سجن جورين وسط سوريا بحسب ما ذكرن في شهاداتهن لمعدي التحقيق.
رفضت ثلاث فتيات الحديث عما تعرضن له في المعتقل، فيما وافقت أخريات على البوح شريطة إخفاء هوياتهن، لحمايتهن من الوصم الاجتماعي الذي قد يلاحقهن إذا كشفت أسماؤهن.
تمكن الفريق من الوصول أيضاً إلى الممرّضة التي عالجت المعتقلات.
العنف الجنسي… انتهاك تاريخي
يعتبر العنف الجنسي جريمة بموجب قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، إضافة إلى القانون الدولي الجنائي الذي شهد تطوراً وأصبح يجرم أشكال العنف الجنسي على المستوى العالمي، الاستعباد الجنسي، أو الإكراه على البغاء، أو الحمل القسري، أو التعقيم القسري، أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي، كالتي وردت في السوابق القضائية والكتابات القانونية مثل الاتجار من أجل الاستغلال الجنسي وتشويه الأعضاء الجنسية والاستغلال الجنسي مثل الحصول على خدمات جنسية مقابل الغذاء والحماية والإجهاض القسري ومنع الحمل القسري والاعتداء الجنسي.
تاريخياً، تعتبر النزاعات المسلحة مساحة لانتشار العنف الجنسي وهي ظاهرة خلفت عواقب وخيمة على الضحايا من النساء والرجال والفتيان والفتيات، كما أنها تسبب أذى بالغاً لكل المجتمع المحيط بالضحية.
والحديث عن الانتهاكات الجنسية في المجتمع السوري يشكّل قضية حساسة بسبب الوصم الاجتماعي الذي يطاول الضحية التي قد تتعرض لانتهاك مضاعف بعد اكتشاف ما تعرضت له، بسبب ثقافة لوم الضحية، التي تحمل المرأة مسؤولية الاعتداء الذي تتعرض له. ومع شيوع ثقافة وقوانين تمييزية ضد النساء، فغالبآً ما تتعرض الفتيات اللواتي عانين من العنف الجنسي الى وصم ونبذ يصل أحياناً الى حد القتل بذريعة “الشرف”. إلا أن بعض السيدات كانت لديهن الجرأة الكافية للحديث لضرورة كشف ما يحصل من انتهاكات في السجون السورية، لفتح باب المساءلة لإحقاق العدالة.
في شهادتها تروي لينا أنها امضت 5 أشهر في المعتقل، ثم نُقلت الى سجن انفرادي، حينها اعتقدت أن عائلتها تمكنت من الوصول لها ودفع رشاوى لتحسين وضعها السجني ووقف ضربها لكنها كانت واهمة: “دخل عليّ واحد من العناصر وأخدني لحمامات خاصة بالعناصر، وطلب منّي أتحمم. بمجرّد ما خلصت رجّعني على السجن نفسه، وربّطلي إيديّي ورجليّي بالسرير. خلص هون تأكدت إنّه في شي حيصيرلي. بعد ساعات دخل (أ.ب) واغتصبني، وبعدها أمر العناصر باغتصابي؛ كنت شايفتهن صافّين بالدور ورا بعضهن، كانوا خمسة…”.
بعد أيام من الاغتصاب الجماعي، هددها الضابط المسؤول (أ.ب) بأنها إن لم تمارس الجنس مع اشخاص يحددهم لها خارج السجن فستواجه متاعب، “أجا (أ.ب) على زنزانتي، فكرت إنه راح ارجع اتعرض لاغتصاب جماعي متل كل مرة، قام قلي هالمرة مش راح يكون اغتصاب جماعي يعني في السجن، راح يكون خارج السجن ومن شخص واحد، وقلي بوعدك إذا عملتِ شوشرة راح خليكِ فريسة لعناصرنا كلهن. بنفس الليلة اصطحبوني خارج السجن بشاحنة، كان متل البرّاد من كتر ما هي باردة. وأنا إيديّي مربوطين وعيوني مطمّشين، وتمي مسكّر بقطعة قماش.
بعد شوي وصلنا، بيدو المسافة ما كانت بعيدة، ودخلنا بيت، سمعت أصوات رجال وكنت حاسة إيديهن عم تلمسني وأنا ماشية بينهن، بالآخر وصلنا لغرفة، قلي (أ.ب) اقعدي هون من دون صوت وإلا بقتلك. بعدها دخل زلمة واغتصبني، بعد دقايق مرافقه لـ(أ.ب) فتح الباب وقاله خلص وقتك، بدك تمدد؟ قاله إيه، ورجع اغتصبني. هاد الشي تكرر مع 3 رجال تانيين، وعرفت وقتها إنه (أ.ب) عم يأجّر جسمي. لما وصلت للسجن ونُقلت للمنفردة، بقيت هنيك شهرين حتى نقلوني على مهجع السيدات. وهنيك أنا التقيت بآلاء، اللي صار معها تقريباً متل ما صار معي”.
يشير تقرير حقوقي لـ”منظمة أطباء ومحامون من أجل حقوق الإنسان” بعنوان تحليل الاعتقال والاحتجاز التعسفي للنساء في سوريا أن حوالى 40 في المئة من حالات الاعتقال حصلت عند نقطة تفتيش (حاجز)، وكان ما يقرب من 30 في المئة من حالات الاعتقال في المنزل.
جريمة حربعلى غرار محنة لينا، كانت رحلة الوصول إلى آلاء (34 سنة) وهي ناجية من سجن جورين، طويلة ومعقدة، كونها تسكن في أحد مخيمات الشمال، حيث تنتشر على طول الشريط الحدودي مع تركيا أو بالقرب منه 300 خيمة. بعد شهرين من البحث تمكنا من الوصول إلى آلاء، التي ترددت بداية في الحديث معنا لكنها وافقت لاحقاً على تقديم شهادتها باسم مستعار.
اعتقلت آلاء عند حاجز جورين العسكري في ريف حماة وهي في طريقها من محافظة إدلب إلى جامعة تشرين في اللاذقية، وقتها كانت طالبةً في كلية التربية.
بعد اعتقالها ونقلها إلى سجن جورين قيل لها إنّ التهمة الموجّهة لها أنها شقيقة مخرّبين ومنشقين عن الجيش “وكنت تعملين على تنظيم المظاهرات وكل من ينظم ويخرج بالمظاهرات نهايته بالسجن”، تقول آلاء.
تعرضت الشابة لاعتداءات جنسية، كذلك نقلت ليلاً من السجن إلى أحد المزارع القريبة من سجن جورين العسكري وتعرضت هناك لاعتداءات جنسية متكررة.
قبل ساعات من نقل الفتاة إلى خارج السجن جاء أحد الضباط المناوبين، وهمس إلى آلاء ببضع كلمات وختم حديثه معها بالقول: “اليوم يومك بيضيلنا وجهنا”. تضيف لفريق التحقيق.
عمليات نقل سيدات من داخل سجن جورين إلى خارجه ليلاً للاتجار بأجسادهن، وبحسب الشهادات كانت تتم بإشراف ضباط ومسؤولين في السجن، أكدتها شهادات متقاطعة لسكان محليين في المنطقة، ونازحين منها وضباط منشقين وناجين من السجون السورية.
الشهادات تقاطعت عند نقطة استغلال المنظومة الأمنية في السجن للسجينات واجبارهن على العمل الجنسي مقابل مال يعود للمسؤولين الأمنيين.
تقول آلاء أنه بعد الاعتداء عليها تم نقلها معصوبة العينين وموثقة اليدين الى مكان ليس بعيداً من السجن:
“مشينا بالسيارة بالليل لمسافة… لما وصلنا على المكان اللي آخدينني عليه وقفت السيارة. شالولي العصبة عن عينيّي، كنت عم بسمع صوت ضحك، كانت مجموعة رجال، وأنا الخوف متملّكني، ما عم بعرف، ما بعرف إيش السبب، ما بعرف ليش أنا هون.
بس كنت واقفة ناطرة ع الباب، كان في مجموعة من الرجال. (أ.ب) شفته عم يعطي… عم ياخد من شخص موجود بالمكان نفسه، عم بياخد منه رزمة مصاري. تركني هون (أ.ب) وطلعوا لبرا. الشخص هاد سحبني ودخّلني على غرفة، وقام باغتصابي رغم إني حاولت أمنعه، لكن كانوا ساديين وحشيين…”.
آلاء ولينا وأخريات اليوم يحاولن استئناف حياتهن بعد المحنة القاسية التي مررن بها. لكن قليلات تمكن فعلاً من الاستمرار وما محاولة لينا الانتحار إلا أحد تجليات المعاناة التي ترافق ضحايا الاستعباد الجنسي من أزمات نفسية واجتماعية تلاحقهن طويلاً حتى بعد انتهاء الاعتداء.
ما يجعل هذا الأمر معقداً هو حجم انتشار الانتهاكات الجنسية التي ترتكب بشكل منظم وممنهج في سوريا. فخلال الفترة التي احتجزت فيها آلاء أصدر مجلس حقوق الإنسان تقريراً أكد فيه استمرار العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي ضد النساء والفتيات والرجال والأولاد في سوريا، منذ آذار/ مارس 2011.
ووثّق التقرير ارتكاب القوات الحكومية والميليشيات المرتبطة بها، الاغتصاب والانتهاكات الجنسية ضد النساء والفتيات، في مرافق الاعتقال الرسمية وغير الرسمية.
تتقاطع شهادة آلاء مع ما كشفته مسؤولة ملف المعتقلين والمفقودين في المسار الرسمي في جنيف، أليس مفرّج، بالقول: “تم رصد انتهاكات ضد النساء من اغتصاب والاعتداء عليهن جنسياً في مرافق الاحتجاز الرسمية والسرية، وهو ما يُشكّل جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية”.
وتضيف مفرّج في مقابلة مسجلة: “الاستعباد الجنسي يتكرر عبر نهج الاغتصاب الواقع على النساء بالقسر والجبر من أجل القهر. وقد تم توثيق الاستعباد الجنسي منذ عام 2012 وهو مؤشر واضح لما يحدث في السجون السرية في سوريا، وهذا ربما ينطبق أيضاً على سجن جورين باستخدام النساء لممارسة البغاء القسري، وهو ما يمكن وصفه بجريمة اقتصاد حرب، حيث لا يتم الضغط عليهن فقط من أجل إخضاع المجتمع، أو استخدامهن رهائن، بل أيضاً تتم بالاستفادة من هؤلاء المعتقلات بممارسة البغاء القسري من أجل تمرير ما يُسمى اقتصاد الحرب”.
رعاية صحية
للتحقق من الشهادات التي قدمتها الناجيات من سجن معسكر جورين، عرضنا صورة المشتبه بتنظيم الاتجار والانتهاك الجنسي (أ.ب) على الناجيات في نطاق زماني ومكاني مختلفين وقد تعرفت الناجيتان ألاء ولينا، والممرضة إيمان على صورة المشتبه به.
إضافة لذلك كان لا بد من البحث عن شهادات إضافية وإتباع منهجية تحقق جديدة.
تمكنا من الوصول إلى الممرضة التي كانت ترى وتسمع وتعالج الفتيات اللواتي يتعرضن “لانتهاكات جنسية واغتصاب في سجن جورين”.
وإيمان (39 سنة) ممرضة وكانت معتقلة في السجن بسبب نشاطها السياسي. تقول إنها تلقت عرضاً من الضابط المسؤول عن سجن جورين ووعداً بالعمل على إطلاق سراحها مقابل تقديمها الرعاية الصحية للنساء في سجن جورين على أن تتكتم على الوضع الصحي أمام بقية المعتقلات.
قبلت إيمان العرض، ولم تتخيل للحظة أنها ستواجه “صدمة أكبر من صدمة السجن” لدى معالجة السجينات.
تصف إيمان في مقابلة مسجلة في خيمة ما حدث معها خلال تقديم العلاج بالتفاصيل وتقول: “حين دخولي سجن المنفردة وجدت فتاةً عارية غائبة عن الوعي، تملأ الكدمات جسدها، تبين لي أنها كانت عملية اغتصاب جماعي ودلّ على ذلك نزيف حاد”.
تؤكد إيمان أنها وجدت نفسها تعالج فتيات صغيرات (تحت السن القانونية 18 سنة) مصابات بالأعراض ذاتها، مشيرةً إلى أنه كل ثلاثة أشهر كانت تُستبدل الفتيات بأخريات من المهاجع الجماعية.
إيمان التي اعتقلت في كانون الأول/ ديسمبر 2014 كانت تشارك في إسعاف الجرحى، وهي أم لأربعة أطفال، اعتقلت في سجن جورين العسكري، وبقيت فيه حتى خروجها من هناك بصفقة تبادل أسرى.
تصمت السيدة دقائق وتقول: “المقدّم (أ.ب) هو المسؤول عن عمليات تأجير أجساد المعتقلات خارج السجن مقابل مبالغ مالية”.
و(أ.ب) هو ضابط برتبة مقدم، وهو أحد الضباط المشرفين على الزنازين ويعمل مع قوات الدفاع الوطني، وهي ميليشيا محلية أسسها النظام السوري في كل منطقة لمواجهة الانتفاضة الشعبية ولقمع التظاهرات المطالبة بالحرية، وينحدر من قرية عين سليمو، جنوب قرية جورين التي تعتبر من القرى الموالية للنظام السوري.
استهداف مدروس!
“اعتقل النظام السوري النساء بشكل مدروس ومخطط، وذلك ضمن سياسة تركيع المجتمع السوري وثنيه عن المشاركة بالحراك الشعبي، كما أن وجود نساء بمركز احتجاز غير رسمي وسرّي بعيد عن كل أشكال المحاسبة، يزيد من احتمال وقوع انتهاكات وحشية”، بحسب مديرة قسم المعتقلين في الشبكة السورية لحقوق الإنسان نور الخطيب.
وبحسب شهادات متقاطعة لحقوقيين، فإن معظم مراكز الاحتجاز السرية في سوريا تقع تحت قوات النظام السوري، وتشاركها في السيطرة ميليشيات محلية كجيش الدفاع الوطني واللجان الشعبية، والهدف منها عمليات التعذيب المروعة التي تفوق عمليات التعذيب في السجون النظامية، إضافة إلى طلب الفدية والحصول على مبالغ مالية كبيرة من الأهالي مقابل الإفراج عن المخطوفين.
وتقول نور: “إن مراكز الاحتجاز السرية في سوريا كالسجون المدنية ومقرات الأفرع الأمنية لم تعد تتسع، لذلك عمدت الى تحويل عدد من المدارس والملاعب الرياضية وبعض الابنية الى معتقلات. وهذه أيضاً لم تعد تكفي الأعداد الكبيرة للمعتقلين الذي تجاوز 225 ألفاً، لذلك عملت على تحويل مساحات شاسعة من الأراضي الى معسكرات احتجاز كمعسكر دير شميّل وجورين”.
في شهادة ضمن تقرير حمل عنوان “جرائم خطف النساء واغتصابهن والاعتداء عليهن في سورية” والصادر عن اللجنة السورية لحقوق الإنسان، تكشف (نور 35 سنة) عن اعتقالها نهاية عام 2011 على أحد الحواجز في حمص باب الدريب، بسبب مشاركتها في تظاهرات سلمية، ومن ثم تم اقتياد الفتاة إلى النقطة العسكرية في الحي ومن ثم نُقلت إلى شقة وسط مدينة حمص،حيث شاهدت 10 معتقلات يتم تشغيلهن في الدعارة.
وبحسب الشهادة فإن النساء المعتقلات اللواتي يتم خطفهن وتشغيلهن في الدعارة تشرف عليهن امرأة وظيفتها أن تهيئ النساء لتقديمهن هدايا لضباط في الجيش السوري.
في هذه الشقة تعرضت الفتاة للاغتصاب تقول: “حال دخولنا الشقة تم تمزيق ملابسنا، وتعرضت للاغتصاب في الشقة لأول مرة بعدها كنت أقاوم هذه المرأة وأدعو الفتيات لعدم الانصياع لها، لتطلب المرأة نقلي إلى مكان آخر وإخراجي من الشقة”.
نقلت نور بعدها الى فرع فلسطين في العاصمة دمشق ويُعرفُ كذلك باسم فرع 235 هو أحد السجون سيئة الصيت التي تديرها المخابرات السورية.
خرجت الفتاة من المعتقل الذي أمضت فيه ثلاثة أشهر، وبعدها بأشهر هربت من البلاد بمساعدة مهرب محلي وتعيش اليوم في إحدى دول الجوار السوري.
تشير أليكساندرا ليلي كاثر، وهي مستشارة قانونية في منظمة غير حكومية ألمانية في مقابلة مع فريق التحقيق، إلى أنّ أهميّة هذه القضيّة تكمن في أنها تظهر هذه القضية للمرّة الأولى.
وتبيّن بشكل واضح أن الجاني مارس سلطة مترتّبة على حق ملكيته هذه النساء. إنّها جريمة استرقاق، وهذه جريمة ضدّ الإنسانيّة، ومُجرّمة في المادّة 7.1.3 من قانون الجرائم المرتكبة ضدّ القانون الدولي.
تواصل فريق التحقيق مع وزارتي الدفاع والداخلية السورية عبر البريد الإلكتروني للحصول على حق الرد، إلا أنّنا لم نتلقَّ أي رد حتى نشر التحقيق. كذلك لم يرد (أ.ب) على الهاتف أو الرسائل الرقمية عندما حاول الصحافيون التواصل معه للحصول على تعليق.
وبحسب شهادة فهد الموسى المدير التنفيذي للهيئة السورية لشؤون المعتقلين والأسرى أنه بعد خروج محافظة ادلب في أقصى الشمال السوري عن سيطرة النظام 28 آذار/ مارس 2015، فقد تم نقل الأفرع الأمنية من مدينة إدلب إلى قاعدة جورين العسكرية كفرع الأمن العسكري والسياسي حتى عام 2020 حيث نقلت إلى خان شيخون ومعرة النعمان، ويدير السجن (أ.ب) وهو ضابط يعمل مع قوات الدفاع الوطني وهو من قرية عين سليمو جنوب قرية جورين.
وفاة (أ.ب) الغامضة
قبل نشر التحقيق بأربعة أسابيع، تواصل فريق التحقيق مجدداً مع (أ.ب) للرد على ما وجه إليه على لسان المعتقلات وعن اتهامه بالاشراف على تعذيب المعتقلات وتأجير أجسادهن مقابل الأموال خلال فترة احتجازهن، وذلك عبر الاتصال الهاتفي على رقمه الشخصي والتطبيقات الرقمية، وهي “واتساب” و”ماسنجر”.
في بداية الحديث معه للتحقق من هويته، أكد لنا أنه الشخص المتلقي للرسائل، وبعد توجيه الأسئلة المتعلقة بدوره في ممارسة الانتهاكات، وصلتنا رسالة واحدة من (أ.ب) تتضمن العبارة التالية: “أنا لست الشخص المقصود، يرجى عدم إرسال أي رسائل إلى هنا”.
ولم نسمع منه أي شيء آخر، برغم محاولتنا التواصل معه عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي أكثر من مرة.
صبيحة 26 تموز/ يوليو 2022 رصدنا منشورات ونعوات على “فيسبوك” تشير إلى وفاة (أ.ب).
وفقاً للمعلومات التي أوردتها تلك المنشورات من حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي المرتبطة به، فإنّ “الوفاة” وقعت الساعة الخامسة والنصف من فجر السبت 23 تموز 2022 إذ تدهورت سيارته في بلدة القاهرة غرب محافظة حماة”.
إلا أننا لم نستطع التأكد من مصدر مستقل من وفاته، إن كانت حقيقية أم مصطنعة للتغطية على الشهادات التي وردت في التحقيق.
من سجن أصغر إلى آخر أكبر!
إلى اليوم، يضع اعتقال النساء السوريات خطاً فاصلاً بين ماضيهن ومستقبلهن في حال إطلاق سراحهن، لأن تداعيات الاعتقال اجتماعياً وأُسرياً كثيراً ما تتسبب لهن بعزلة قسريّة، إذ يخشين الحديث عما حصل معهنّ، أو الإفصاح عن الانتهاكات التي تعرضن لها، خوفاً من الوصم الاجتماعي الذي يلاحقهن في مجتمع يحملهن مسؤولية الاعتداء عليهن لمجرد أنهن نساء.
“عندما خرجت من سجن جورين طلقني زوجي لأنني دخلت السجن. تخيل لقد دخلت السجن بسببه”، هكذا كان رد إحدى الناجيات حين سؤالها عن استقبال زوجها حين خروجها من المعتقل.
أمّا لينا فقد أقدمت أكثر من مرة على الانتحار عبر قطع وريد يدها، وكان آخرها حين التقينا بها في ردهة المستشفى في ريف ادلب، حينها أوضحت أن سبب محاولة انتحارها هو اعترافها لخطيبها بما حصل معها في سجن جورين، ما أدى إلى انفصالهما.
وثق تحقيق استقصائي سابق لوحدة التحقيقات الاستقصائية السورية، “سراج”، قصص نساء تحرّرن من الاعتقال فحاصرتهنّ زنازين المجتمع حيث لا تزال الناجيات من معتقلات النظام السوري يواجهن صعوبات كثيرة للعودة والتأقلم مع الحياة بعد خروجهن من السجون، إضافة إلى ظروف بالغة القسوة واجهتها السيدات خلال الاعتقال، وسط قيود كثيرة لا تسمح لهن باستعادة الحياة الطبيعية.
يستخدم العنف الجنسي في سوريا كسلاح حرب، لتحطيم كل من يعارض السلطة، وتدمير العائلات وزعزعة استقرار المجتمعات، وهو ما كشفه تقرير بعنوان وصمة العار حول العنف الجنسي والناجين منه.
عدد من الناجيات يشعرن بملاحقة نظرات الناس الغريبة التي تحمّلهن مسؤولية ما حصل معهن، فضلاً عن الازدراء ورفض أهاليهن قبولهن وتعرضهن للطلاق، فيما تقبلت عائلات آخرى اعتقال بناتهّن وحاولوا مساعدتهّن على تخطي تجربة الاعتقال.
تشير الطبيبة دجانة البارودي، اختصاصية العلاج النفسي، أن الشعور بالاكتئاب، وعدم الاستمتاع بالحياة، والانعزال والانطواء، هي ما تواجهه الناجيات من سجون النظام السوري.
وتضيف: “إن المعتقلات الناجيات تغير سلوكهن وشخصياتهن، فتصبح الواحدة منهن إنسانة أخرى بعد الاعتقال، ومنهن من أصبحت تتبنى دور المحقق في القسوة، وتتعامل مع أولادها وزوجها، بطريقة طرح الأسئلة والتشكيك بعنف”.
كذلك يفرض شعور الخذلان على المعتقل البقاء في “قوقعة” الاعتقال، خوفاً من أن يتعرض للمزيد من الأذى، أو يواجه خيبة أمل من المقربين.
تضيف البارودي “وجدت أن أكثر أمر يساعد المعتقلة الناجية على أن تعود إلى حياتها الطبيعية هو أن تعيش علاقات اجتماعية سويّة، بعيدة من نظرات الازدراء والمحاسبة”.
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/759196891867664
وتقول أليس مفرّج، وهي عضوة الهيئة التفاوضية السورية، ومسؤولة ملف المعتقلين والمفقودين في المسار الرسمي في جنيف، تُعاقب المرأة حين اعتقالها من قبل النظام وتُعاقب أيضاً من مجتمعها بعملية الوصم المجتمعي وتفقد أي فرصة للحماية المجتمعية بمجرد الاشتباه بأنها تعرّضت للعنف الجنسي، فما بالك بأنها تعرّضت له بالفعل؟!