هوازن خداج – العرب
في لجة الصراع التدميري الدائر في سوريا وتركيز الحكومة السورية على إنهاء الوجود المسلح في الجيوب المتبقية في محيط العاصمة وريفها، تكتب ذاكرة الفلسطينيين فصلا جديدا في فصول مأساتهم المستمرة التي بدأت في خسارة وطن لصالح إقامة الكيان الإسرائيلي، وامتدت لخسارة ما بني من أوطان وهمية في ذاكرتهم، فالخيام مهما مُتّنت أوتادها في دول الشتات لن تصبح أوطانا وستبقى عرضة للهدم.
يبقى الفلسطيني بلا وطن أو حلم وطن هذا ما يقوله الواقع، فمسألة حق العودة المحصورة في وجدان شريحة كبيرة من الفلسطينيين صارت قضية هامشية بين جملة كبيرة من القضايا العالقة والمغيبة منذ اتفاق أوسلو، وتأسيس سلطة الحكم الذاتي المحدود في غزة وأجزاء من الضفة الغربية، وانتقال السياسة الفلسطينية نحو إدارة السلطة لمناطقها وتعليق ما تبقى من ملفات كالقدس والمستوطنات والحدود بمحور المفاوضات مع إسرائيل ما جعل حق العودة مرتبطا بوهم الدولة الفلسطينية الآتية بالتسويات.
أما مسألة الوجود الفلسطيني في دول الشتات والذي يشكل الأكثرية العددية للفلسطينيين، فقد أعفت السلطة الفلسطينية نفسها من حمايته أو تحمل مسؤوليتها تجاهه، وبعد أن كان دافعا رئيسيا لتأسيس الفصائل السياسية التي سيطرت على منظمة التحرير، صار مرهونا بما تفضله حكومات الدول من ابتعاد الفلسطينيين عن الحالة السياسية وعدم التعاطي في الشأن العام لهذه الدول المضيفة.
مسألة الوجود الفلسطيني في دول الشتات والذي يشكل الأكثرية العددية للفلسطينيين، فقد أعفت السلطة الفلسطينية نفسها من حمايته أو تحمل مسؤوليتها تجاهه
النأي بالنفس ليس واردا بالنسبة لفلسطينيي الشتات في سوريا، فزلزال الحرب فيها طال الجميع نتيجة حالة الاستقطاب بين النظام السوري وحلفائه، وبين فصائل المعارضة بكافة أشكالها، ما جعل مخيم اليرموك جنوبي دمشق، وهو أهم المخيمات وموطن لنحو 144 ألفا من اللاجئين الفلسطينيين، واحدا من النكبات المختلفة بأسبابها ومنفذيها التي أصابت المخيمات الفلسطينية طوال تاريخها والممتدة من جمهورية التنك في تل الزعتر وضبية التي دمرتها الميليشيات اللبنانية بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 إبان مواجهة للحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية، لتحقيق الفصل بين المنطقة الشرقية المسيحية، والمنطقة الغربية الخاضعة للحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلى مجزرة صبرا وشاتيلا والأيام الثلاث الداميات عام 1982 التي نفذها حزب الكتائب اللبناني وحركة أمل والجيش الإسرائيلي، إلى برج البراجنة التي تعرضت لحصار وحشي وتدمير مبرمج في الأعوام 1985 و1988، ومخيم نهر البارد والذي جرى تدميره وتشريد سكانه في العام 2007 بعد اجتياحه من قبل تنظيم “فتح الإسلام”، وصولا إلى مخيم اليرموك الذي وضع ما بقي فيه من فلسطينيين أي نحو 3 آلاف مدني بين كماشة داعش ومطرقة النظام وحلفائه.
المخيم لم ينخرط في مظاهرات بداية الثورة، وكان الخيمة الهادئة التي لجأ إليها أهالي البلدات المجاورة للعاصمة هربا من الموت والقصف العشوائي، لكن بعد عسكرة الحراك كُسر قيد الحياد مع دخول الجيش الحر في العام 2012، والاشتباك بمشاركة بعض القوى الموجودة في المخيم مع قوات النظام السوري وإعلان هذه الفصائل المقاتلة السيطرة عليه، ليدخل المخيم الذي كان مركزا للحركة الفلسطينية وخزانا بشريا للمقاتلين ضد إسرائيل طوق الحصار الخانق لمدة عامين (2013 و2014) من قبل النظام والفصائل الفلسطينية الموالية له، وفي أبريل 2015 أعلن تنظيم داعش سيطرته على أجزاء واسعة من المخيم، إضافة إلى حي الحجر الأسود وأجزاء من حي التضامن ومنطقة العسالي بحي القدم، وخيم شبح الموت فوق عاصمة الشتات وصار فلسطينيو المخيم مشردين مرتين.
عاصمة الشتات في مخيم اليرموك التي أرهقتها المجاعة ومنع الماء والحياة عنها طوال خمس سنوات لم ترحمها النيران غير الصديقة لأي من أطراف الصراع، حتى لو ادعى بعضهم غير ذلك، ولم يقف معها أهلها من الفصائل الفلسطينية، فمنظمة التحرير الفلسطينية وحركتا حماس والجهاد الإسلامي بعد محاولاتها الأولى لتحييد الفلسطينيين عن الحرب تركت المخيم لمصيره البائس لينال قسطه من التدمير بسبب وجود تنظيم داعش الذي أطاح بإمكانية تخفيف المأساة على الفلسطينيين الذين صارت العودة إلى مخيمهم حلما مع كل هذا الدمار.
مأساة مخيم اليرموك التي أضيفت إلى مآسي الفلسطينيين في رحلة شتاتهم ليست بما أصاب هذه الخيمة من دمار، إنما في تدمير المكان الذي منحهم حلم العودة الممتنع عن التحقق.