عندما يكون المفهوم سمة، والرغبة شعوراً، والقضية دين وأمة، فلا بد أن تبحث عن الإمكانية لتحقق الهدف، مهما حالت بينك وبين هدفك العقبات، وأخّرتك العوائق والنكبات، وإن قدمت في سبيل ذلك حياتك، ومالك، ودمك.
من هنا كانت البداية، ومن هنا تبدأ القصة والحكاية…
رجب طيب أردوغان، الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، منذ وصوله إلى السلطة عام 2002 وحتى الانقلاب الأخير في 15 تموز الجاري، ليصبح الرجل والانقلاب شُغل الناس الشاغل، وحديث الساسة والقادة، والمحللين والإعلاميين.
فالرجل الذي ولد في استانبول 1954، درس الابتدائية في مدرسة قاسم باشا، وتخرج منها عام 1965، ثمّ درس في ثانوية اسطنبول للأئمة والخطباء وتخرّج منها عام 1973، ليلتحق فيما بعد بكلية العلوم الاقتصادية والتجارية بجامعة مرمرة، ويتخرج منها عام 1981.
عُرِف أردوغان باهتمامه بالحياة الاجتماعية والسياسية، وانشغاله بها منذ أوّل شبابه؛ حيث تعلّم روح العمل مع الفريق والانضباط بالعمل الجماعي، وكان شابّاً ذا فكر ثاقب ونظر بعيد، مما أهله للولوج في العمل السياسي، وانطلق أردوغان من قاعدة “حتى تصل إلى السلطة عليك أن تطرح مشروعك وتقنع مؤيديك، ولكي تبقى فيها، عليك أن تحقق مصالحهم”.
بدأ رجب طيب أردوغان ينشط ويثابر حتى تولى دوراً بارزاً في المنظمة الطلابية للاتحاد الوطني للطلبة، حيث أصبح رئيساً للمنظمة الشبابية في مدينة إسطنبول، ثم عمل مستشارًا وإداريًّا رفيعًا في القطاع الخاص بعد حل الأحزاب السياسية، ليعود إليها بقوّة مع تأسيس حزب الرفاه عام 1983، وأصبح رئيس الحزب في فرع بايوغلو باسطنبول عام 1984، ثمّ رئيساً للحزب في مدينة اسطنبول، وعضواً في اللجنة الإدارية للقرارات المركزية، حيث بذل جهوداً كبيرة، في إعداد الهياكل التنظيمية للحزب وتشجيع الناس للعمل بالحياة السياسية.
انتُخب رجب طيب أردوغان رئيساً لبلدية اسطنبول عام 1994، وتمكّن خلال فترة رئاسته للمدنية من إحداث نقلة نوعية استطاع خلالها حل مشكلات كبرى في النقل والممرات عبر إنشاء الجسور وفتح الممرات وحل مشكلة التلوث بمشروع الانتقال إلى استهلاك الغاز الطبيعي.
وفي العام 1997 حُكِم على أردوغان بالسجن بسبب قصيدة شعرية أنشدها أثناء إلقائه خطابًا أمام الجماهير في مدينة سيرت، وفُصِل من رئاسة بلدية إسطنبول، على أثرها ليؤسس مع مجموعة من الأصدقاء حزب العدالة والتنمية بعد خروجه من السجن عام 2001، واختير رئيساً للحزب من اللجنة التأسيسية حينها، ليفوز بعد ذلك في الانتخابات التشريعية عام 2002، بنيل ثلثي مقاعد البرلمان، في سابقة أدهشت الكثير من المراقبين والمحللين آنذاك، وأحدثت نقلة نوعية في السياسة التركية.
لم يتولى منصب رئيس الحكومة إلا في العام 2003 بسبب الحكم الصادر بحقه بعد السجن، ليشرع بعدها في تنفيذ إصلاحات حيوية ومهمّة، نقلت البلاد من حالة ركود اقتصادي مزمن، إلى دولة اقتصادية متميزة وناجحة، جعل الكثير من المراقبين والرؤساء، يطلقون على طريقة عمله وارتقائه بالاقتصاد التركي “الثورة الصامتة”.
وفي العام 2011 جدد أردوغان انتصاره بزيادة أصوات حزبه إلى 49،8% في انتخابات 2011 وتمكن من تشكيل الحكومة منفرداً.
وفي العاشر من آب 2014 انتخب الشعب التركي رجب طيب أردوغان رئيسًا للجمهورية التركية عبر الاقتراع المباشر من الشعب، ليصبح الرئيس الثاني عشر في تاريخ تركيا، بعد سقوط الخلافة.
بعد الانقلاب الأخير الهادف إلى إزاحته عن السلطة، عبر اغتياله السياسي أو الجسدي، وفشل العسكر بالمهمة الخبيثة التي كانت موكلة إليهم، تعالت اﻷصوات بين مؤيد ومعارض لسياسات الرجل وتوجهاته، وخصوصاً داخل المجتمع العربي والإسلامي، مع إدراكنا العميق أن معظم السياسيين الغربيين يرغبون بإزاحته عن السلطة، وإنهاء حكمه ذو التوجه الإسلامي والاستقلالي، الطامح لإعادة أمجاد آل عثمان والسلطنة العملاقة.
تياران متناقضان تماماً في النظرة والحكم، والتعاطي مع الرجل وبينهما تيار وسط كان له دور الحسم والقرار.
فأما التيار الأول، فهو التيار الحاقد عليه، الناقم على سياساته وتوجهاته، وهو عدة أقسام أولهم الدول الغربية ، والكيان الصهيوني ، ومن ورائها الصهيونية العالمية، والماسونية الخفية.
وجماعة ولاية الفقيه على اختلاف طوائفهم ومللهم ونحلهم وأحزابهم ومشاريعهم، إذا ما استثنينا من هؤلاء بعض الأصوات النشاذ التي تغرد خارج جماعاتهم، وتنطق كلمة الحق، وتعطي للرجل حقه ومكانته، بموضوعية وحياد، وهؤلاء جميعاً تنطلق أحقادهم وانتقاداتهم، تجاه الرجل ومشاريعه، من منطلق ديني عقدي وتاريخي، دون أن نغفل البعد الاقتصادي والمكان الاستراتيجي الذي تتمتع به الدولة التي يحكمها الرجل ويقودها، في ردات الفعل الموجهة تجاه الرجل والحكم عليه.
والقسم الثاني القادة والزعماء العرب، وهم أشد المتضررين من زعامة الرجل وتوجهاته الدينية والإصلاحية، واستقطابه الكبير للنخب المتحررة، وعموم الأمة، ولو استثنينا من ذلك بعض الدول العربية التي تسير في نفس المركب، شاءوا أم أبوا ، وسقوط الرجل ومشروعه سيقود حكماً إلى سقوط دول المنطقة في براثن الحاقدين والطامعين والمتآمرين، مما يعني سقوط هذه الدول.
أما القسم الثالث، العلمانيون والقوميون العرب، وهؤلاء أبعد الناس عن العلمانية وأشدهم عداء للقومية، فأيديهم وقلوبهم مع الطغاة المجرمين، وبطونهم مملوءة من ثريد ولاية الفقيه.
أما القسم الرابع فهم من المحسوبين على الحركة الإسلامية، اذ أن بعضهم يكفرون الرجل ويصفونه بالجسرية التي تمهد وتروج للعلمانية باسم الدين وعلى حسابه، وآخرون يعتقدون بأن الرجل صاحب مصلحة يبحث عن مصلحته ولا يعدو يدور في فلك المجتمع الدولي الكافر، خدمة وهدفاً، فطائراته جنباً إلى جنب مع طائرات الصليب، تنطلق من أراضيه لتقتل أبناء المسلمين، وتدمر ديارهم، ومدنهم، وأن حزب الرجل أقرب إلى العلمانية من الإسلام، ورفع شعار الإسلام ليس إلا شعاراً يستفز به مشاعر الناس للوصول الى الحكم، وتجربة النهضة، والحزب الإسلامي العراقي، وإخوان سوريا، وعلاقتهم بإيران، ليست بالمشجعة، ولم تحقق للأمة سوى الخنوع والخضوع والفشل، والانتصار لأردوغان معناه انتصار لمشروعهم الملتبس.
وعدل الكثير من هؤلاء القوم عدل عن رأيه، وغيّر في توجهاته وأحكامه، بعد الانقلاب الأخير ضد الرجل، وبلده المحوري في أمة الإسلام، عندما تحققوا أن المستهدف، ليس الرجل وحزبه، بل الأمة الإسلامية، من خلال استهداف الرجل، فيما لا تزال جماعة تحمل فكر “التكفير”، تعتبر أن من لم يحكم بالغسلام، فهو كافر بغض النظر عن العواقب والمآلات، والقدرة والتمكين.
أما المغالون فيه، فهم قلة، ولكنهم موجودون، وهو فكر قديم متجدد، في كل مكان وزمان، وهذا الفريق لديه مشكلة بطريقة التحليل والفهم، وبالتالي اتخاذ الأحكام، وفقاً لمفاهيمهم الخاطئة، واستدلالهم المقيم، حيث بتنا نسمع ونقرأ في بعض كلام المادحين، إطراء لا يقال إلا في معصوم، أو نبي ، وهؤلاء لا يقبلون النقد تجاه الرجل بحال من الأحوال، ويرون أن أفعاله وتوجهاته وسياساته صواب محض، لا تقبل النقد والخطأ، بل ذهب بعضهم إلى أن التيار الذي يقوده هو التيار الأمثل الذي لا يعتريه النقص ولا الزلل، وعلى الأمة أن تترك جميع مناهجها وأدبياتها وتلحق بالركب، وتنتقل من سعة الإسلام وعدله، إلى ضيق الأحزاب والجماعات بغض النظر عن مسمياتها وأدبياتها وآليات عملها.
والبعض الآخر يرى للرجل مقاماً أعلى من مقام التابعين، بل يزيد بعضهم، بأن درجته ومنزلته أعلى من درجة ملك الحبشة الذي استقبل المسلمين في الهجرة الأولى وكان سندهم في أحلك الظروف، وأشد اللحظات انعطافا في مسيرة الإسلام الخالدة، فنظرة هؤلاء، بأن تصدي الرجل لكثرة الأعداء، مع تطور أدواتهم، وتقلبهم في البلاد، تجعل الكفة ترجح لمصلحته، في مقاربة عقلية خاطئة في الاستدلال، فاسدة في النتائج حكماً ولزاماً، في مفارقة عجيبة تدعو للنظر والتأمل، وتبيان المسألة من نظرة شرعية ومنطقية، بعيداً عن المصلحة والعصبية والهوى، فالمقارنة هنا بين رجل زكاه من لا ينطق عن الهوى، ورجل زكيته أنت وأنا، ولا ندري أصائر إلى جنة أو إلى نار، والحي لا تؤمن عواقبه.
والبعض الآخر فتن بالديمقراطية والعلمانية لما رأى من بركاتها وخيراتها على منتهجيها، حسب فهمه، ورأيه وما ترسخ لديه من أفكار وقناعات، والقياس عنده بين العلمانية، على ما فيها من السوء، وبين أنظمة دكتاتورية ظالمة، وليس القياس بينها وبين منهج الإسلام الحنيف الذي لا يعتريه النقص ولا يشوبه الزلل.
ولم يعلم أصحاب هذا الرأي أنها (أي العلمانية والديمقراطية) كانت لباسا اضطراريا للوقاية مما هو أشد وأنكى، ووسيلة إلزامية للوصول إلى هدف أسمى تلزم العاملين فيها بتركها والإقلاع عنها تدريجياً أو مباشرة (بحسب الحالة) في أول حافلة نقل شرعية تصل بصاحبها إلى المبتغى والهدف.
وفريق آخر، وهم عامة المسلمين ونخبهم، هم السواد الأعظم من جماعة الوسط في رؤيتهم ونظرتهم للرجل ومشروعه مع فروق بسيطة لهذه الطبقة، تبعاً لثقافتها وبيئتها ومدى تفاعلها مع هموم الأمة وقضاياها.
فهؤلاء يرون الرجل صاحب هم وقضية، وصاحب مشروع ورسالة، ويحمل رسالة الأمة في قلبه وبين يديه، يعتز بالإسلام ويعمل لأجله، ونفس الرجل وسلوكه، تدل أكبر دلالة على هدف الرجل وغايته، وأمره وحقيقته على الله رب العالمين، ويحب المسلمين ويجتهد في مصالحهم، والزود عنهم، ويطمح لأن تكون تركيا نواة لنهضة الأمة ومثالاً يحتذى به في طريقة الوصول إلى الهدف، فتجربة عدنان مندريس على مدار عشر سنوات، ماثلة أمام عينيه، ومن ثم اقتياده إلى حبل المشنقة وهدم ما بناه في عشرات السنوات، بأيام معدودات، ثم تلتها تجربة نجم الدين أربكان التي لم تكن أوفر حظاً من سابقتها، والحقيقة أن التجربتين نافعتين وكل منها بنى على التجربة التي قبلها واستفاد منها، فالمهمة تقتضي الانتقال بالعلمانية من حالة العداء مع الدين، إلى حالة الحياد، والانتقال بالناس من حالة الكفر الإجباري إلى حالة الكفر الاختياري، والسيطرة على مؤسسات الدولة لتصبح ملكاً للشعب وتوجهاته، دون الاصطدام معها وخسارة المكتسبات، والمشي بين الألغام بحذر وذكاء حتى تحقيق الغايات، مع الأخذ بالأسباب والتوكل على مسببها.
ومن ثم الوصول إلي العام 2023 والانعتاق من اتفاقية الإذعان والخنوع إلي الحرية، التي تمكن لتركيا من استخدام ثرواتها وخيراتها، علي الوجه الذي يحقق مصالحها وتطلعاتها.
وهؤلاء يبررون لأردوغان طريقة الحكم بأحكام العلمانية، ودساتيرها، كآكل الميتة اضطراراً، للبقاء على الحياة، التي لا تحصل دونها الغاية من وجود الناس، ومن ثم تعبد الله على النحو الممكن، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وبدليل أن ترك ركن من أركان الصلاة اضطراراً لا يبطلها، ولا ينقص من أجرها بشرط أداء الركن فور القدرة عليه.
والرجل بنظرهم، يتمتع بشخصية القائد وسمات الرجال، وعنفوان الأسود، وثقة المؤمنين الصادقين، يخطئ ويصيب، له ماله وعليه ما عليه، ليس مقدساً ولا معصوماً، ولا يستطيع أحد أن يضمن له الجنة كائناً من كان ولا يؤمن الفتنة، ولا يعلم أصائر إلى جنة أو إلى نار، وظاهر أمره إلى خير، والله يتولى السرائر وهو أحكم الحاكمين.
وهؤلاء يرون أن المستهدف هو الأمة بأكملها والقضاء على تطلعاتها وآمالها، من خلال استخلاف قادة فاسدين يسمعون ويطيعون، ويقفون في وجه الشعوب، والحيلولة دون حريتها وكرامتها، وتنحية القادة الشرفاء الذين يعملون لمصلحة شعوبهم، والاصطفاف خلف تركيا بقيادة أردوغان والنصح لهم ومؤازرتهم ونصرتهم واجب شرعي.
في حين أن النيل منه والتهكم عليه ومهاجمته وتأييد المنقلبين عليه خطيئة وجريمة ومعصية قد تصل بصاحبها إلى الكفر، إن أصرّ واستمرأ العداء لأمة الإسلام ووقف في صف أعدائها، وكما قال الشافعي، (اذا أردت أن تعرف أهل الحق فارقب سهام العدو)، وسهام أهل الباطل قد اجتمعت وتوحدت للنيل من تركيا ورئيسها لأنهم يعلمون أنها وقائدها حائط الصد الأخير عن الأمة، بعد أن أسقطوا العراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن، ولكنهم بوعي الشعب التركي، وقيادته الحكيمة المخلصة، ومساندة الشعوب الإسلامية، ستفشل خططهم وتمضي إلى زوال.
وضاح حاج يوسف – أمية برس