يلتفون حول المائدة، قبيل أذان المغرب بدقائق قليلة، يقول سامر الابن الأصغر للعائلة “ايييه، رحمك الله يا أحمد، كنت تفضل أكلة الملوخية وتحبها كثيراً، وها نحن نأكلها اليوم على الإفطار لكن بدونك، أنت تأكلها في الجنة حتماً”.
أحمد استشهد في قصف جوي على معرة النعمان في شهر رمضان من عام 2019، حينها قصف طيران النظام سوق المدينة مخلفاً عدد كبيراً من الشهداء، ذلك السوق الذي شهد عدة مجازر دامية في تموز وكانون الثاني من نفس العام.
تسرد أم أحمد على المائدة أحداث استشهاد ولدها، وتذرف الدموع بحرقة بعدما ذكرتها بولدها الأكلة التي يحبها، وليست الأكلة وحدها، فكل شيء يذكرها فيه، وهو الذي لم يغب عن بالها لأية لحظة “ذهب للسوق لشراء بعض حاجيات الفطور، قال لي أنه لن يتأخر فقط يريد شراء شراب التمر هندي الذي يحبه، وكعكة المعروك ويعود”.
“قلبي بات يغلي كالجمر بعد سماع صوت الطائرة من بعيد تقترب من المدينة، وأسواق معرة النعمان مكتظة جداً في رمضان حتى وإن كانت تتعرض للقصف بين الفينة والأخرى لكنها لا تخلو من الناس، تقصف الطائرة وتخلف شهداء وبعد ساعة تجد السوق عاد من جديد بالحركة المعتادة، حينها احتل الخوف والقلق قلبي، وكأن قلبي جمرةً تغلي وتسأل الله السلامة لأحمد ومن في السوق وبلحظة انفجرت الصواريخ لتهز أركان المدينة”.
انفجرت الصواريخ وارتقى شهداء وأصيب الكثير من الناس، أصوات سيارات الإسعاف تدوي في سماء المدينة، ويهرع عناصر الدفاع المدني للإنقاذ، وتقول أم أحمد “حينها شعرت أن ولدي استشهد، يقولون قلب الأم لا يكذب وأنا كذلك، قلبي استشعر بفقد ولدي وغيابه عن ناظري للأبد، لم يكن باستطاعة أعصابي حينها تكذيب الخبر الذي جاءني بعد دقائق مؤكداً مخاوفي لتنهار تلك الأعصاب”.
يقاطع أبو أحمد زوجته في الحديث، يقول لها “رحمه الله وجعله مع الشهداء، هذا أمر الله وقضائه فلا تحزني، ها قد اقترب موعد الفطور دعي الأطفال يأكلون ولا تدخلي الغصة في قلوبهم وقلبك، حياتنا باتت عبارة عن مأساة، وعلينا تجاوز تلك المأساة ونسيانها ولو لدقائق، فشهر رمضان يحمل البهجة والسرور لنا ولو كنا في حال لا يرثى لها”.
تلك الدقائق الطويلة ما قبل الإفطار يعيشها معظم السوريين، المهجرون منهم في المخيمات على الحدود التركية أو الجالسين في بيوتهم، فالجالسين في المخيمات يستذكرون كل شيء يخص أشخاصهم الذين فقدوهم وحتى أماكنهم المفضلة، ويقول “سعيد” أحد المهجرين إلى مخيمات مشهد روحين في الشمال السوري “أشتاق لأجواء رمضان في بلدتي حيش، وافتقد لأشخاص كنا نمضي معهم الوقت الطويل، واليوم حرمنا من رؤيتهم”.
“لكل بلدة ميزة خاصة في رمضان، اليوم لا نجد تلك الميزة وإن وجدت فهي بطعم مختلف عما كانت عليه، نجلس على مائدة الإفطار وحيدين بلا صوت الجيران المعتاد أو صوت المؤذن الذي تفطر كل القرية مع سماع صوته وبات جزءاً من تاريخنا، حتى طعامنا لم يعد نفس النكهة، فهناك كنا نأكل من ما تنبت أرضنا وبتعب أيادينا”.
الجدير ذكره أن شهر رمضان ذو القيمة الدينية الكبيرة والأهمية العالية عند السوريين لم يخلو من المجازر المرتكبة بحقهم من قبل قوات النظام، ففي رمضان 2011 اقتحمت قوات النظام حماة وقتلت 100نحو مدني، وفي نفس الشهر من ذات العام ارتكبت قوات النظام مجازر في حمص أبرزها مجزرة ساحة الحرية والحولة، وفي شهر رمضان عام 2012 وقعت مجزرة داريا التي راح ضحيتها 320 شهيداً، والقائمة تطول بعشرات المجازر ومئات القتلى الذين استشهدوا في شهر رمضان، لتكون قصة كل واحد منهم غصة عند ذويه مع كل إفطار رمضاني.
قصة خبرية بقلم: إبراهيم الخطيب
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع