تحملها لأولّ مرة قدماها الصغيرتان على دربٍ طويلٍ، لم تعتد المسير فيه إلا برفقة والدها أو أحد إخوتها، تسير وفرح الطفولة يملأ قلبها رغم أنّها لأول مرة ترتدي الحجاب، كانت تجربة جميلة وصعبة، كان عليها السير مسافة خمسة كيلومترات عن منزلها القروي؛ لتحقق حلمها الوردي في مدرستها الإعدادية، ثم تعود يومياً وترمي حقيبتها المدرسية وتأخذ استراحة بسيطة وتنطلق مثل الفراشة تشارك أطفال وبنات الحارة ألعابهم البريئة القديمة.
تجري الأعوام الدراسية للمرحلة الإعدادية سريعاً كعادة كلّ شيء جميل، ويعدو كغزالٍ هاربٍ من بين يدي صياد عاشقٍ متيّمٍ، انقضت بكلّ دروبها الطويلة وعذاباتها وبراءتها بكلّ حب وتعلقها بالبيت الذي ضمّ أسعد أيامها، لتغدو صبية بهية الطلعة صغيرة القد كبيرة الفكر والأحلام.
كان عليها في هذا الفصل من الحكاية أن تقطع مسافة عشرين كيلومتر لتصل إلى مدرستها الثانوية في المدينة المجاورة، ولحسن حظّها فقد استطاع الطلاب القلة تأمين سيارة نقل بشكل يومي من قريتها النائية إلى مدرسة الإناث الواسعة الضيقة على صدرها، لم تحبّ تلك المدرسة إلا بعد أن غدت ذكرى، فكثير من الذكريات المشتهاة لنا كانت واقعاً صعباً كرهناه يومها لكنّه يبقى صفحة من كتاب العمر “خاصتنا”، وكأن المدرسة هي الأخرى لم تحبها ولم تحب بساطتها.
عليها أن تعتاد على رؤية الشبان يقفون أمام باب مدرستها وهي من كانت تشاركهم الألعاب قبل بضع سنوات، كان يخنقها تسلّط معلمات الثانوية وقسوتهن وبعدهن عنها، وهي التي اعتادت كل حب وتقدير من أساتذة الإعدادية، وعليها أن تلتزم بالحجاب بشكل تام وهي التي كان يعطيها قصر قامتها عمراً طفولياً تتحرك فيه بحريتها، ربما هو هواء المدينة ما كان يخنقها ويغلق أفق مقلتيها، ورغم برود المكان وشحوبه تشابكت يديها وأيدي بعض الصحبة، ممّن رسمنَ بعض الأماني البعيدة سوية، وأضفين لوناً خاصاً للثانوية بجمال الوجوه وانطلاقة الشباب وبعض المشاغبات الصبيانية.
تمنح تلك الطفلة نصائحها الطيبة لكل المراهقات من صديقاتها، ويمنحها ذلك عمراً أكبر من عمرها ورزانة فوق عفويتها ومكاناً في قلوب كل من عرفها.
تجاوزت تلك المرحلة بكل فصولها المزهرة والخريفية وانتقلت إلى الجامعة كباقي الطالبات المتفوقات، وانتسبت لأعلى الكليات، لكن هذا الفصل كان الأصعب كما ظنّت حينها، كان المشوار طويلاً كُتب عليها وسارت في دربه، وعليها أن تستقلّ ثلاث سيارات عامة لتصل إلى المحطة التي تبعد عن قريتها خمسة كيلومترات.
قدماها المتعبتان وهنتا مرات عدة، ثم عادتا إلى النهوض مصابرة لأنه آخر الدرب كما كانت تعتقد، حتى قلبها الصغير لم يكن ليحتمل كل تلك المسافات والوجوه الغريبة والقلوب المتصيدة.
جاءت كلمات الوالد الواثق المكافح لتثبّتها وتنبتها على دربها الذي تساقطت عليه جميع صديقاتها في قفص الزوجية الخانق للمتعلمة، كانت نظراته الواثقة والشامخة تمسح كل الدموع من عينيها بل وتحرقها قبل سقوطها لتولّد إصراراً، لقد تعهّد لها بأنه الجبل الراسي الذي لن يترك أعمدة طموحاتها تنهار مادام حياً، كان يوصلها صباحاً إلى المحطة لينتظر مساء في نفس المكان، لم يسألها يوماً عن سبب تأخّرها، لم ينظر في قسمات وجهها إن كانت تخفي عنه شيئاً، بل يبادرها بحديث عابر عن حال القرية في غيابها وانشغالها الكلي بدراستها، ثم يستمع لثرثرتها عن أساتذتها ومراهقات الطلبة والطالبات وأعباء المحاضرات والأبحاث، لم يزر يوماً مدرستها أو جامعتها فحجم الثقة التي منحت لها كانت كافية لتحكي له كلّ شيء دون سؤال، لم يتدخل يوماً في اختيار نوع لباسها أو لونه، كانت بضع كلمات وتلميحات تكفيها لتختار المناسب.
تصل متأخرة إلى البيت، وتبدأ حفلة التذمر بسبب عدم جاهزية الطعام أو عدم الاحتفاظ بحصتها من الحلويات اللذيذة كالأطفال، لتطلق الدموع شلالات متشبهة بأصغر أخوتها (وكأنها تدرس لأمها على حدّ قولها).
عبرت كل تلك المراحل لتصل لساعة الإنتاج بعد التخرج والتوجه إلى عملها، إلى ثغرها -مكان الرباط- الذي لم يخفها كونها أنثى أن ترابط عليه، فلقد كانت ابنة أبيها كما يفخر بها وسنده بقدر ما كان سندها، بيت سرّه وأنيسة دربه، كما كان حارسها الأمين طوال رحلتها التي لم تكتب الأقدار سيناريو نهايتها بعد.
والدها الحنون مازال يشاطرها حديث المساء عن عملها كما كان، ويصغي باهتمام وهي تسرد مشاق الحياة في هذا البلد المنهك الغارق بالوجع الذي تخلّفه الحرب، تشكو له جفاء الدنيا وهجرها لروحها الغضة، يخفف عنها بعض حدّتها وتسرعها الذي ورثتها منه، ويدفعها حيناً آخر لتستمرّ في تمرّدها على ظروف الطبيعة القاسية، ثم يدعم خيارها الذي قررت أن تعيشه.
تغادر بيت أبيها إلى مدينة بعيدة حزينة ليلها أسود قاس مخيف كنهارها على فتياته، مستقلة بعملها وحياتها نائية ببقية عمرها عمّن يسرقه منها، كان في كثير من الأحيان يستنير برأيها الذي كان غيره يعتبرونه نصف رأي، بالمقابل كانت مسؤوليتها عظيمة أمام كل تلك الثقة كانت حريتها تاجاً يكلل خياراتها وخطواتها عقداً من الماس تفاخر به ولا تقبل المساومة عليه بأي ثمن، بل يزيدها ثقةً وكفاحاً وصبراً وجلداً.
تلك الأنثى الحرة ابنة رجل زرع فيها المسؤولية، وقلّدها وسام الحرية فأنبت روحاً تتوقد عنفواناً وأخلاقاً وشرفاً.
عندما تمتلك الأنثى الثقة والحب، تربي جيلاً ثائراً على كل القيود حراً لا يقبل ذلّ العبودية، واعياً بواقعه فطناً لمستقبله، مكافحاً ثابتاً على الطريق بكل أشواكه وأباليسه.
الأيام السورية_ نيرمين خليفة