أحمد صباح، شابٌّ من قمحانة التابعة إلى ريف حماة الشّمالي، موظٌّفٌ في القطاع الحكومي، ومزارع، لكنّه يشكو الفاقة بسبب ظروف الحياة الصعبة قبل الثورة، فاضطرّ إلى عمل إضافي في مجال المحاسبة.
تعرّض في بداية 2002 إلى الملاحقة الأمنية التي طالت عددا كبيرا من الشباب الجامعيين المثّقفين الواعين آنذاك: ” كنت مطالبا منذ أكثر من 10 سنوات بمراجعة فرع الأمن العسكري بشكل دوري، بعد أن اعتقلوني من الجامعة”.
انخرط أحمد في بداية الثورة في صفوف المتظاهرين، وهذا طبيعي، فهو من الذين يعرفون حقيقة هذا النظام الذي صنّفه كإرهابي لمجرد أنّه طالب جامعي متميز ملتزم، بعيد عن الانحلال والانفلات.
مع بداية اقتحام حماة، شارك أحمد بإيصال الخضار والمواد الغذائية للمدنيين في حماة، ساعده في ذلك قرب بلدته من ” حماة “، ومعرفته بالمداخل والمخارج الآمنة إليها. لم تخلُ تلك الأيام من المخاطر، كثير من الشباب أصيبوا وبعضهم استُشهد، ومنهم ابن أخيه “ماهر” تقبله الله، أول شهيد في العائلة.
يروي أحمد طرفة حصلت عندما بدأ النظام باقتحام بلدات ريف في 21/ 2/ 2012، بدءًا من بلدته قمحانه: ” هربنا إلى الوديان في أول يوم اقتحم النظام بلدتنا، وفي صباح اليوم الثاني فعلنا الشيء ذاته، ومع تكرار الاقتحامات لم نعد نعلم أين نذهب، فبقينا في الوديان قرابة 3 أيام، وبعدها اضطررنا إلى العودة إلى البلدة.
شاهد.. يكون الأخ سبب مآسي أخيه، بسرقة أرضه، وزجِّ أخيه الآخر بالسجن
كان الوصول إلى بيوت القرية شبح مستحيل، عناصر النظام منتشرون في كل مكان، تسللنا أنا وصديقي المحامي إلى بيت مهجور في أطراف البلدة إلى أنْ يزول الخطر، كان لنا صديق ثالث يحضر لنا ما نحتاج من طعام وشراب خفية. ذات مرة مرّت زوجتي من أمام البيت المهجور، والتقت بصديقي هناك.
سألته عني بحرقة والدموع تغمر عينيها الحزينتين. تلعثم صديقي بداية ثم أخبرها أنّي ذهبت إلى الرقة. ولا يعرف عني شيئا. كنت أرقبها بصمت خانق، وبعجز قاتل، وبعينين مُلِئتا شوقا، وبقلبٍ شغَفَتْه عشقا، لم أستطع أن أنْبِسَ بِبِنْتِ شَفة وأنا الذي لا تفصلني عنها سوى بضعة أمتار، فازداد الوجع وجعا والضيق ضيقا”.
بقي أحمد وصديقه مدة من الزمن في ذلك البيت إلى أن أصبح المنزل خطرا بعد اعتقال صديقهم الثالث.
لاحقا اعتُقل أحمد، وبعد سنتين من خروجه من المعتقل بات هو وعائلته مهددين بالاعتقال. كان ينوي البقاء في بلدته ويحررها من براثن النظام، ولكن اضطُّر إلى إخراج عائلته وإبعادهم عن أعين النظام. كانت مورك هي وجهته الأولى ومنها إلى اللطامنة وصولا إلى كفرنبل التي بقي فيها إلى أن سقطت بيد النظام فاضطر إلى معاودة النزوح مجددا قاصدا إدلب.
بعد خروج أحمد وعائلته من قمحانة بحوالي أسبوع اعتقل النظام أخاه ليعرفوا منه كيف خرج وإلى أين ذهب. عذبوه كثيرا، وخضع بعده لعلاج فيزيائي مدة شهرين ليتمكن من المشي مجددا.
يتحدّث أحمد بمرارة أكثر من مرارة النزوح، عندما يخبرنا أنّ أحد إخوته الأربعة هو من وشى بأخيه للنظام، وكان له دور في اعتقال عمهم وتعذيبه، وأصبح هو وعائلته من الشبيحة في البلدة. والمؤلم أيضا أنّ هذا الأخ الشبيه قد استولى على ممتلكات أحمد وأخوته كلّها بعد نزوحهم.
كان لأحمد مكتبة ضخمة جدا في منزله، ولا غرابة في ذلك، فهو الجامعي المثقف كما أشرنا. يتألم أحمد كثيرا وهو يتحدث عن مكتبته تلك. فقد نهب النظام منها ما نهب، وباع أخوه الشبيح ما تبقى منها.
ويزداد ألمه حين يكلمنا عن الصور التي بعثها له ابن أخيه الشبيح وهو في غرفة نومه ويرتدي ربطة عنقه. أي قهر هذا؟ وما الرسالة التي يريد ذاك الشبيح الصغير أن يوصلها إلى عمّه الثائر؟
يقول أحمد: ” المشكلة أنها لم تأت من أحد غريب .. عندما يكون مثلا من عنصر أمن أو من عسكري .. ولكن أن تكون من أقرب الناس … هنا يكون الجرح أكثر إيلاما”.
أحمد الآن نازح مهجّر، بعيد عن بلده. يسكن في بيت أفضل من بيته الذي نُهب، واحتُلّ، ولكنه لا يستطيع نسيان تلك الذكريات الجميلة في ذاك البيت؛ سهراته مع العائلة، وغرفته التي كان ينسق فيها المظاهرات والعمل الثوري، والياسمينة في زقاق البيت.
سألناه إمكانية العودة إلى بلدته قمحانة فأجاب: ” نحن خرجنا قلة ولم نخرج كثر …. حتى بالحلول السياسية من يشبهني من الصعب أن يعود … نحن لا نعود إلا بنصر حاسم …. نعود ونحن الأقوى …الأقوى ليس للانتقام .. نحن قادرون على المسامحة ولكن…بحيث أن يعيش أبناؤنا بكرامة بعدنا “.
وأمّا عن الاستقرار فقال: ” الحلول الجزئية والحلول السياسية تجعلني أفكر أن أستقر في المكان ذي الطبيعة الثورية والبيئة الثورية … وطبيعة تفكيره من طبيعة تفكيري”.
واختتم أحمد قصّته بقوله: ”
خسرت الأرض …خسرت البيت .. ولكن بالنسبة لي …. كان رأسمالي موجود هنا .. عملنا منذ أن تهجرنا على تطوير أنفسنا … سواء أنا أو زوجتي التي ساعدتني كثيرا خلال فترة النزوح.
عملنا وطورنا أنفسنا وبنينا أنفسنا وبدأنا من الصفر وأقوى مما كنا عليه من قبل لتحقيق هدفنا.. نسعى بكل طاقاتنا لتحقيق أهداف ثورتنا ونحن على أرضنا، وضمن بلدنا، ولن نغادره”.