الموت أمرٌ محتوم على الخلائق، فهذه سنّة الكون، وتتعدَّ الأسباب، وتتفاوت الأوجاع، ولا تدرى نفس بأي أرض تموت، ولكنْ قمّة الوجع أن يموت الإنسان قهرا وعجزا في ظلّ ظروفٍ يندى لها الجبين، ويحار لها الطفل والجنين.
شاهد… قصة أملاك ليلى التي عرفت بموت زوجها المعتقل من خلال صورة
خالد” اسم مستعار” شاب في العقد الرابع من العمر، حسن الخُلُق، كريم المنبت، طويل القامة، مسترسل الشعر، عيناه تفيضان حزنا على الواقع الذي آل إليه في مخيّمات النّزوح، بعد أنْ كان ميسور الحال، وبعيدا عن ذلِّ السؤال.
ينحدر خالد من ريف إدلب، نزح إلى مخيّمات الشّمال بعد الحملة الهمجية الأخيرة على المنطقة. دُمِّر بيته، وتشرّدت عائلته، وتغيّرت حاله، وساءت أوضاعه.
بين عشيّة وضحاها وجد نفسه وعائلته في العراء، تحت أشجار الزّيتون. بقوا على هذه الحال أياما عدّة، لا يجدون فيها قوت يومهم.
أطفاله الصّغار يلتفّون حوله يريدون الأمان والطّعام والمأوى، وهو عاجز مكتوف اليدين بعد أن كان يطعمهم أحسن الطعام، ويلبسهم أحسن الثياب. فلذات كبده يرتعشون بردا، وبطونهم خاوية/ وهو لا حول له ولا قوة.
شنَّ الطيران الحربي للنظام وحليفه الروسي حملة همجية على الشمال السوري، أدى إلى نزوح الآلاف من العائلات التي أصبحت بين السماء والطارق. أرتال من الآليات التي نقلت أولئك المُهجّرين المكلومين إلى مصير مجهول، إثر سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها النظام في تدمير المدن والقرى والبلدات وتهجير المدنيين.
استطاع خالد تأمين خيمة، آوته هو وعائلته بدلا من شجرة الزيتون التي أمضوا تحتها أوقاتا عصيبة. كان يظن أنّ أطفاله سينعمون فيها ببعض الأمان.
داهمهم الشتاء بغتة، وازدادت الهطولات المطرية، فغرقت الخيمة، واضطُّرَ أن يبيت ليلته في العراء كسابق عهده.
في الصباح حاول أن يتدارك الأمر، وجاء بحجارة وضعها كرواق حول الخيمة، على أمل أن تمنع تدفق السيول الناجمة عن غزارة الأمطار، حلَّ المساء ودخلوا يحتمون بخيمتهم. اشتدّت سرعة الريح المحمّلة بالمطر، وقبل بزوغ الفجر كانت الخيمة في مكان وهم في مكان آخر.
أولاده يرتعشون من البرد، أغراضهم كلها مبللة بالماء، لا يوجد مكان يحتمون فيه من المطر، أصواتهم تتعالى بالبكاء، والرّعد يهْزِمُ، والسّماء تُمطر، والوضع يزداد سوءا ساعة بعد ساعة، ويزداد معه شعوره بالعجز حيال ما هم فيه.
في كلّ عام تغرق الكثير من المخيمات في فترة تزايد الهطولات المطرية، ويعيش فيها النازحون حياة صعبة ما بين الطين والماء وقلّة الخدمات، وسوء الأحوال الجوية، وكأنّ العالم بمنأى أو بمعزل عمّا يحصل في مخيّمات القهر.
تكرر الموقف مع خالد مرات ومرات، وفي المرة الأخيرة التي غرقت فيها الخيمة، ذهب إلى شجرة الزّيتون. أسند ظهره إليها، ووضع يده على رأسه، والحزن يعتصر قلبه، والعجز قيّد يديه وعقله، فلم يحتمل ماحلّ بعائلته وكيف تشرّدت بعد اليسر وكيف أصبح عاجزا عن تأمين مأوى. تملّكه العجز والقهر، أسند رأسه إلى جذع الشجرة، وسلّم الرّوح إلى باريها.
خالد واحد من ملايين المشرّدين الذين هُجِّروا من مدنهم وقراهم، بعد أن دمّرها النظام الأسدي وحليفه الروسي، ولكنّه لم يحتمل هذا القهر وهذا العجز، فمات كمدا وقهرا.
إنّ مأساة السوريين لم تتوقّف عند هذا الحد، ولم تنتهِ بموت خالد قهرا في مخيّمات النّزوح، فمازال هناك ملايين المهجّرين الذين ينتظرون الفرج، والعودة إلى بيوتهم ومراتع صباهم، في الوقت الذي مازال فيه هذا النظام المجرم يقصف القرى ويدمر المدن ويهجّر المدنيين الأبرياء.
بقلم :ظلال عبود
المركز الصحفي السوري