في ليلة شتوية باردة، تتناثر فيها حبات المطر، يجلس عدنان وحيداً على كرسي خشبي قرب باب منزله، بأصابع متشققة ينهي سكون الليل عبر العزف على آلة الكمان مقطوعة موسيقية من تأليفه أسماها “الرمق الأخير”.
لا يبدو هذا المشهد معتاداً في مدينة مثل إدلب، شمالسوريا، خاصة خلال سنوات الحرب الطويلة الماضية، حيث طغى أزيز الرصاص على أي صوت آخر، رغم ذلك، هيّجت الموسيقى مشاعر الجيران وهم يستمعون بخشوع تام لأنغام تجسد واقع البلاد المؤلم.
انسكبت من عيني عدنان فور الانتهاء من العزف دمعة لم يقدر على حبسها، وبصوت خافت مبحوح يعلق أحد جيرانه، اسمه عمر “انتابني شعور بأنك تنعي الثورة، ما سمعته للتو يشبه موسيقى سمعتها في فيلم يموت جميع أبطاله في آخر المشاهد، المقطوعة جميلة ومؤلمة في آن معاً”.
من أوجاع الشعب
عدنان الأسمر -الذي ألّف ولحن عشرات الأغاني والأناشيد منذ اشتعال الثورة السورية في مارس/آذار 2011- يرى أن الموسيقى جزء أصيل من ثقافة وحضارة السوريين، وكانت حاضرة دائماً في التعبير عن همومهم ومناصرة لقضاياهم، مشيراً إلى أن الفن بألوانه الكثيرة يرتقي حين يعبر عن أوجاع الشعوب.
ويؤكد أن الموسيقى مختلفة عن باقي الفنون، فهي متأصلة في نفس كل إنسان، وتعبر عن مكنونات وخفايا روحه، ولا تعتمد المادة وسيلة أساسية للتعبير، مثل الفن التشكيلي أو النحت، كل شيء على أنغام الموسيقى يكون روحياً، فيمكن لأغنية أن تبكينا أو تفرحنا.
|
تناول عدنان في ألحانه وأغانيه مواضيع عديدة متعلقة بالوضع القائم في بلاده، فألّف قبل اندلاع الثورة أغنية “المستقبل الضائع” معبراً عن الضبابية التي تلف كل ما هو قادم في سوريا، ولاحقاً لحن مقطوعة موسيقية، أطلق عليها اسم “أصابع باردة” تضامناً مع الأطفال في المخيمات.
تقول ريم قدسي، طالبة في كلية الفنون الجميلة بجامعة إدلب للجزيرة نت “الموسيقى لها وقع آخر على النفس، وأعتبرها سلاحا سلميا تستخدمه الشعوب في سعيها للتحرر أو في الطريق للنهضة والتطور، وهي خير وسيلة للتعبير وترجمة الأحاسيس وإبراز الإبداع، لاسيما في المناطق التي تشهد اضطراباً وانعدام استقرار”.
يحمرُ وجه ريم خجلاً وترتسم ابتسامة خفيفة على وجنتيها وتضيف “ربما لا تصدق إن قلت أن أحد أسباب مشاركتي بالثورة سماع أغنية (يا حيف) للفنان سميح شقير، كان وقعها عليّ كالسحر”.
ألوان أخرى
يقف الرسام عزيز أحمد أمام لوحة انتهى من رسمها للتو على أحد جدران دار أيتام سرمدا، شمال سوريا، ليشرح لعشرات الأطفال الملتفين حوله محتوى اللوحة والرسالة التي أراد إيصالها.
عنون عزيز لوحته بـ “الأمل” وشد انتباه الأطفال باستخدام ألوان جذابة ومتناسقة، وتُصَور اللوحة شخصيات كرتونية محببة للصغار، تزور دار الأيتام صباح يوم ربيعي مشمس، يكسو حرم الدار مرج أخضر، مزينٌ بالورود والأزهار.
يمنح عزيز الطفلة هبة ذات ثمانية أعوام فرشاة للمشاركة في تلوين الشخصيات الكرتونية المرسومة على الجدار، بعد أن اختارت عنوان “بكرا أحلى” على اللوحة، ونال إعجاب الأكثرية.
يرى الرسام عزيز أحمد (44 عاماً) أن إتاحة فرصة المشاركة للجمهور تزيل الحواجز وتكسر القيود وتلهم الفنان، وكذلك تشعر المشاهد بأهميته، مشيراً إلى أن هذا ما دفعه لامتهان “فن الغرافيتي” عن غيره من أنواع الرسم.
يتخذ عزيز من الجدران المهشمة وأسقف الأبنية الواقعة -نتيجة القصف في إدلب ومناطق مجاورة- مكاناً لترجمة أحاسيسه إلى لوحات تعالج قضايا سياسية واجتماعية.
وفِي إحدى اللوحات التي رسمها على جدارٍ في مدينة بنش، قارن بين رد السلطات الفرنسية على المحتجين بالقمع الوحشي الذي تعرض له المتظاهرون السلميون بميادين سوريا، وفي لوحة أخرى وجّه انتقاداً لاذعاً لفصائل المعارضة على خلفية اقتتال داخلي وقع تزامناً مع هجمات جوية للنظام السوري مستخدماً أدوات بسيطة مثل البخاخات والدهانات بألوانها المتنوعة.
يقول جابر العلي تاجر العطورات في سوق إدلب للجزيرة نت “نادرا أن ترى رساماً يحظى بالشعبية والمحبة كالتي تحيط بعزيز، فهو يختار أفكاره بعناية ويحرص أن تعبر عن قضايا الناس وتنطق بصوتهم، مواكبته للأحداث محلياً وخارجياً لاقت استحساننا جميعاً، وهو ما يفسر تجمهر الناس حوله حينما يبدأ بالرسم على جدار مدرسة مهدمة أو سقف منزل استشهد سكانه في قصف سابق”.
مضايقات
لا يحظى الفنانون في شمال سوريا بالحرية الكافية حين ممارسة وعرض فنونهم، رغم الدعم الشعبي الذي يتمتعون به، فمثلاً تحرم بعض الفصائل المقاتلة الموجودة في إدلب -والتي تحمل أفكاراً متطرفة- الغناء على إيقاع الآلات الموسيقية، وسبق لها أن أغلقت جامعة “إيبلا” مؤقتاً واعتقلت مديرها بسبب الاستماع للموسيقى خلال حفل التخرج نهاية العام الدراسي منتصف يونيو/حزيران 2018.
وكذلك أقدمت الفصائل على طمس وتغيير معالم إحدى أكبر وأجمل الرسومات في مدينة إدلب، بعد مرور ساعات قليلة على وضع عدد من الرسامين اللمسات الأخيرة على اللوحة.
نقلاً عن: الجزيرة