سبعة أعوام مرت على واحدة من أفظع الجرائم التي شهدها العالم، حين قصف النظام السوري سكان الغوطتين الشرقية والغربية من دمشق السورية في 21 آغسطس/آب 2013 بالكيميائي، فقضى المئات منهم وهم نيام. وعلى الرغم من المجزرة التي ارتكبها نظام بشار الأسد تحت أنظار العالم، إلا أن القتلة لا يزالون من دون محاسبة. يومها وعلى الرغم من مضي عامين على اندلاع الثورة التي حوّلها النظام السوري إلى حرب طاحنة راح ضحيتها الآلاف برصاص بنادقه وقذائف دباباته وصواريخ طائراته، لم يكن أحد من السوريين يتوقع قبل ليل 21 أغسطس 2013 أن يُقدم النظام على استخدام السلاح الكيميائي باستهداف المدنيين، إلى أن أصبح ذلك واقعاً، حين أمطرت الصواريخ المحملة بغاز الموت بلدات الغوطة ليلاً، ما جعل ذلك التاريخ ليس كما قبله، على الأقل في مسيرة الثورة السورية، التي قاربت على إتمام العشرة أعوام من عمرها.
وقبيل ثلاثة أيام من الهجوم، كانت بعثة مفتشين دوليين قد وصلت سورية، للتحقيق بثلاثة هجمات كيميائية اتُهم فيها النظام في كل من خان العسل (حلب)، والعتيبة (ريف دمشق) وحمص، إلا أن ذلك لم يشفع للغوطة من تلقي الهجوم الرابع والأعنف إلى الآن في تاريخ الهجمات الكيميائية التي شنّها النظام ضد السوريين منذ بدء الثورة عام 2011، وبدا النظام وكأنه يحاول إظهار غطرسته وتعنته في وجه الجهود الأممية والدولية، فوجّه ضربته الكبرى بوجود البعثة الدولية في البلاد.
رواية الائتلاف الوطني السوري المعارض، التي أعلنها أمينه العام حينها بدر جاموس في مؤتمر صحافي، تشير إلى أن وحدات من اللواء 155 التابعة لقوات النظام والمتمركزة في منطقة القلمون المحيطة بدمشق، قامت وابتداء من الساعة 2:31 فجراً بالتوقيت المحلي في 21 أغسطس بإطلاق 16 صاروخاً مستهدفة مناطق متفرقة في الغوطة الشرقية من دمشق، وبعد ساعة من ذلك سقطت صواريخ أخرى على الجهة الشرقية من مدينة زملكا بدمشق، وفي الساعة 2:40 فجراً استهدف القصف بلدة عين ترما بصواريخ أصابت منطقة الزينية. وبعد دقيقتين، تم إطلاق 18 صاروخاً استهدفت مناطق الغوطة الشرقية في دمشق، فسقط صاروخ بين زملكا وعربين، واستمر إطلاق الصواريخ حتى الساعة 5:21 فجراً، بسقوط صاروخين، استهدفا مدينة المعضمية في الغوطة الغربية، وقد بدأ وصول الحالات إلى المستشفيات من الساعة 6:00 صباحاً.
إلا أن ناشطين من الغوطة أكدوا لـ”العربي الجديد” أن الصواريخ التي تحمل رؤوساً كيميائية لم يتجاوز عددها 15 صاروخاً، في حين أن الكثير من صواريخ الراجمات سقطت بالتزامن وبعد إطلاق الصواريخ الكيميائية للحد من تحرك المسعفين في طريق نقل المصابين، وهذا ما ألمح إليه جاموس خلال المؤتمر بالقول إن “الصواريخ الكيميائية كافة انطلقت من مصدر واحد وهو اللواء 155 في جبال القلمون، وبقية الصواريخ التي أطلقت على الغوطتين، غير المحملة برؤوس كيميائية، كان مصدرها قواعد أخرى قريبة، من بينها مقر اللواء 127 في منطقة السبينة بريف دمشق”.
وكان جاموس وخلال المؤتمر ذاته، قد عرض معلومات عن وصول الصواريخ إلى مقار اللواء 155 وهي من نوع “زلزال” الإيرانية، ونسخ سورية معدلة من صواريخ “صقر 15” المصرية، في العاشر من أغسطس 2013، وهي صواريخ قادرة على حمل رؤوس كيميائية بحسبه، مشيراً إلى أنه تم وضعها على المنصات في 19 من الشهر ذاته، قبل أن يتم إطلاقها في يوم المجزرة بإشراف العميد في جيش النظام غسان عباس.
في المقابل، جاءت روايات النظام متضاربة، ففي البدء نفى وقوع هجوم بالأسلحة الكيميائية واتهم وسائل إعلام أجنبية وعربية بمحاولة حرف لجنة التحقيق الأممية عن هدفها في التحقيق بهجمات كيميائية سابقة، وبعد تزايد الأنباء والتقارير الدولية عن الهجوم بما في ذلك تقرير منظمة أطباء بلا حدود، أصدر جيش النظام رواية مختلفة عما حصل، فاتهم قوات المعارضة المسلحة بشن الهجوم من المناطق التي تخضع لسيطرتها. وتوالت اتهامات النظام للمعارضة بتنفيذ الهجوم وأن ذلك حصل لمنح ذريعة للغرب بهدف ضرب سورية والنظام، وحاول تعزيز تلك الرواية بادعاء أن جنوداً من قوات النظام ضبطوا أسلحة كيميائية داخل أنفاق في حي جوبر الدمشقي، وكانت ماكينته الإعلامية قبل ذلك تصر على أن ما تسميها “القنوات المغرضة” تفبرك صوراً لضحايا وقتلى وبثها على الإعلام لاتهام النظام، من دون الاعتراف بوقوع الهجوم.
التقارير الأمنية والاستخبارية لعدة دول أجنبية، أكدت وقوف النظام وراء الهجوم باستخدام غاز الأعصاب (السارين). أما عن أعداد الضحايا، فذكرت منظمة أطباء بلا حدود، في تقرير لها صدر في 24 أغسطس 2013، أن 355 شخصاً قُتلوا نتيجة تسمم عصبي من بين حوالي 3600 حالة تم نقلها إلى المستشفيات، بينما قالت المعارضة إن عدد القتلى ارتفع إلى 1466 قتيلاً قضوا نتيجة هجمات 21 أغسطس، في حين ذكر تقرير للمخابرات الأميركية أن 1429 شخصاً قد قتلوا في الهجوم، لكن النظام وصف التقرير بـ”الادعاءات الكاذبة”.
بعد المجزرة، ظن السوريون أن المجتمع الدولي والغرب اللذين أبديا تعاطفاً مع الثورة وقدما لها الدعم الإعلامي وبالتصريحات، لن يتركا النظام يتمادى أكثر من ذلك، معتقدين أن الوقت الذي سيُوقف فيه عن حده قد أتى، إلا أن عرقلة أميركية واضحة كان وراءها الرئيس حينها باراك أوباما، حالت دون توجيه ضربة للنظام حينها، واكتفى العالم بالقرار 2118 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والذي يقضي بانضمام النظام لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية، وسحب وتفكيك الترسانة الكيميائية للنظام، ومعاقبته بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في حال استخدم السلاح الكيميائي مجدداً.
إلا أن النظام خدع المجتمع الدولي، واحتفظ بجزء كبير من مخزونه الكيميائي ولم يسلم إلا الجزء الأقل، بحسب تقارير دولية، وشنّ بعد هجمات الغوطة عشرات الهجمات الكيميائية، في كل من ريف حماة وإدلب وحلب، كان أفظعها مجزرتي خان شيخون في 4 إبريل/نيسان 2017، ودوما في الغوطة الشرقية من دمشق أيضاً في 7 إبريل 2018، وأودت كل واحدة منهما بحياة أكثر من 100 قتيل كلهم من المدنيين، بالإضافة إلى مئات المصابين.
في طريق محاسبة النظام والأسد على الهجمات الكيميائية التي استهدفت المدنيين، استطاع المجتمع الدولي التوصل إلى القرار الأممي 2235، الصادر في أغسطس 2018، القاضي بتشكيل لجنة تحقيق مشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، للتحقيق بالمسؤولية وراء الهجمات الكيميائية في سورية.
وحددت اللجنة مسؤولية النظام بالوقوف وراء ثلاث هجمات باستخدام غاز الكلور، جميعها في إدلب (سرمين، قيمناس، تلمنس) من دون أن تتطرق إلى مجزرة الغوطة 2013 التي استخدم فيها غاز السارين. وجرى تمديد عمل اللجنة مرتين وسط عراقيل كثيرة من قبل الروس، قبل أن ينتهي عملها بعد أن وجّهت الاتهام للنظام بالوقوف وراء هجمة خان شيخون الكيميائية، والذي قابله رفض من موسكو لهذه الاتهامات، واستخدمت حق النقض لإفشال عمل اللجنة.
وشهد شهر يوليو/تموز 2019 تشكيل فريق خاص بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية التابعة للأمم المتحدة، الذي عُدّ أول فريق تحقيق لديه سلطة تحديد الجهة المنفذة للهجمات الكيميائية في سورية، بالإضافة إلى سلطات تتيح له توجيه اتهامات لمنفذي الهجمات. وفي أول تقرير له مطلع إبريل/نيسان من العام الحالي، حدد الفريق مسؤولية النظام في الوقوف وراء ثلاث هجمات كيميائية باستخدام غازي السارين والكلور السامين في بلدة اللطامنة بريف حماة، إلا أن الفريق لم يتطرق إلى هجمات الغوطة عام 2013.
وحول التغاضي الدولي عن المحاسبة والتحقيق في مجزرة الغوطة، رأى الخبير القانوني السوري محمد صبرا، أن “ردة فعل المجتمع الدولي على استخدام السلاح الكيميائي من قبل نظام بشار الأسد، قد تترك تجربة سيئة عند السوريين تجاه كل منظومة القانون الدولي”. وأضاف صبرا في حديث مع “العربي الجديد”: “لقد تعاملت دول مجلس الأمن بانتهازية كبيرة عندما فضّلت موضوع نزع السلاح الكيميائي على المحاسبة، وهذا يثبت أن بشار الأسد لم يرتكب جريمة استخدام السلاح الكيميائي كخطأ استراتيجي أو خطأ في الحسابات، بل ارتكبها في لحظة فاصلة من الصراع، عندما كانت كل موازين القوى تشير إلى أنه في طريقه إلى السقوط، ولذلك استخدم الكيميائي لأنه كان يعرف مسبقاً أن ما يهم الولايات المتحدة هو نزع السلاح وليس أي شيء آخر”، متابعاً “استخدام هذا السلاح كان أشبه بإعادة تقديم أوراق اعتماد الأسد لدى دوائر القرار والنفوذ في العالم، إذ ذهبت الولايات المتحدة ومجلس الأمن إلى توقيع اتفاقية تسليم السلاح الكيميائي خلال مهلة تسعة أشهر، وخلال هذه الفترة لم يكن من المسموح إسقاط الأسد، وكانت هذه المدة ما يحتاجه الأسد فظهرت فجأة “خلافة داعش” بتسهيل من نظامي الأسد ونوري المالكي في العراق ومن خلفهما إيران، بالتزامن مع نهاية مدة اتفاقية الأسد مع مجلس الأمن الخاصة بتسليم السلاح الكيميائي، الأمر الذي أشغل العالم والمنطقة بمعطى جديد يتمثل في محاربة داعش، وهو ما سمح عملياً للأسد في البقاء طيلة هذه الفترة”.
إلا أن صبرا لفت إلى أن “جرائم الحرب لا تسقط بمرور الزمن، وموضوع تسليم السلاح لا يعطي المجرم بشار الأسد أي حصانة، وسيُحاكم على كل جرائم الحرب سواء من قبل المحاكم الدولية أو من قبل المحاكم الوطنية السورية بعد سقوط النظام”، معتبراً أن “كمية العنف والوحشية التي ارتكبها النظام لم تعد تسمح بأن يبقى الأسد حاكماً لسورية، وعلى الرغم من بقائه طيلة هذه الفترة بسبب التدخل الروسي والإيراني، فإن الواقع وتجارب التاريخ وحتى موازين القوى تقول إن النظام لا يمكن أن يبقى، وفي يوم سقوطه أيا كانت الطريقة ستبدأ محاكمته على كل جرائم الحرب التي ارتكبها”.
وشدد صبرا على أن “جريمة استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة عام 2013 لا يمكن أن تزول، وولاية لجنة التحقيق في الهجمات التي حدثت بعد عام 2014 لتحديد الجهة المسؤولة عن ارتكاب جريمة استخدام الكيميائي لا تُلغي جريمة الغوطة، بل على العكس تؤكدها وتدعم حججها، واقتصار ولاية لجنة التحقيقات على بعض الهجمات لا يعني أن هذه الهجمات فقط التي سيحاسب عنها الأسد، بل هي مسألة فنية سياسية تتعلق بمسائل منها ما هو فني من الناحية الجنائية والقانونية ومنها ما هو سياسي، وأساساً هي آلية مشتركة منعت روسيا التجديد لها سابقاً”، مضيفاً “ما يهمنا هي اللجان التي تأخذ ولايتها من مجلس الأمن مع أهمية لجنة المجلس التنفيذي لمنظمة حظر السلاح الكيميائي، لأن تقريرها يتعلق بتطبيق القرار 2118، وهو القرار الذي ينص في الفقرة 21 منه على تفعيل إجراءات بناء على الفصل السابع”.
وفي تقرير لها صدر بمناسبة الذكرى التاسعة لهجوم الغوطة الكيميائي، قالت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إن ريف دمشق تعرض لـ71 هجوماً كيميائياً، وإن عام 2015 شهد الحصيلة الأعلى من الهجمات الكيميائية خلال السنوات التسع الماضية. وسجَّل التقرير 222 هجوماً كيميائياً على سورية منذ أول استخدام موثَّق في قاعدة بيانات الشبكة لاستخدام الأسلحة الكيميائية في 23 ديسمبر/كانون الأول 2012 حتى 21 أغسطس 2020، كانت قرابة 98 في المائة منها على يد قوات النظام، وقرابة 2 في المائة على يد تنظيم “داعش”، بحسب الشبكة.
وأشارت الشبكة في تقريرها إلى أن يوم 21 أغسطس 2013 شهد مقتل 1144 شخصاً اختناقاً، بينهم 1119 مدنياً، من ضمنهم 99 طفلاً و194 سيدة (أنثى بالغة) و25 من مقاتلي المعارضة المسلحة. كما أصيب 5935 شخصاً بأعراض تنفسية وحالات اختناق. وطبقاً للتقرير فإن هذه الحصيلة تشكل قرابة 76 في المائة من إجمالي الضحايا الذين قُتلوا بسبب الهجمات الكيميائية التي شنَّها النظام منذ ديسمبر 2012 حتى آخر هجوم موثَّق في الكبينة بريف اللاذقية في مايو/أيار 2019.
نقلا عن العربي الجديد