محمد زاهد جول (القدس العربي)
لم يكن اقتراح الرئيس الفرنسي ماكرون بإنشاء جيش لأوروبا يحميها من الأطماع الروسية والصينية وحتى الأمريكية، هو الاقتراح الأول في تاريخ أوروبا المعاصرة، فقد حاولت ألمانيا وفرنسا تأسيس ذلك الجيش قبل عقود، على الرغم من وجود حلف شمال الأطلسي العسكري «ناتو»، الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية بين الدول الأوروبية بالمشاركة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لمواجهة الحلف العسكري الآخر باسم حلف «وارسو» بزعامة الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية قبل عام 1990.
لكن المعارضة البريطانية حالت دون تأسيس ذلك الجيش الأوروبي حتى انسحابها من الاتحاد قبل عامين، ما اضطر فرنسا وألمانيا إلى تأسيس تحالف عسكري ثنائي بينهما منذ عقود، وكان ذلك مؤشرا على أن هناك خلافات في الرؤى والتقديرات العسكرية لفرنسا وألمانيا، مع باقي أعضاء الحلف في اوروبا اولاً، ومع أمريكا وقادة البنتاغون ثانياً، ولكن فرنسا وألمانيا، حيث لم تستطيعا توسيع حلفهما العسكري الخاص بأوروبا سابقاً، تنفستا الصعداء بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أولاً، ثم وجدتا أو استفادتا من دعوة الرئيس الأمريكي ترامب الدول الأوروبية إلى زيادة نسبة مساهمتها المالية في ميزانية حلف شمال الأطلسي العسكرية، فقد كان ذلك سبباً آخر لإعادة النظر في المشروع الفرنسي الأوروبي لتأسيس جيش أوروبي حقيقي خاص بها، وغير محتاج إلى القوة العسكرية الأمريكية، ولا الخضوع لابتزازها ولا الامتنان عليها.
الرئيس الفرنسي صدم ترامب والأمريكيين بأن أوروبا بحاجة إلى جيش يحميها من أمريكا
لا شك في أن هذا الخلاف الفرنسي مع أمريكا أحد أسباب الخلاف الأوروبي الأمريكي تاريخيا، لأن فرنسا ترى نفسها أرقى ثقافة وحضارة من الولايات المتحدة، وأن شعبها اكثر رقياً من الشعب الأمريكي أيضاً، ما أوجد رفضاً اجتماعياً وسياسياً في فرنسا لأن تكون القيم الأمريكية قائدة للحضارة الغربية عموماً، وهذا الشعور والتقييم نحو أمريكا وقيمها وشعبها، موجود لدى الدول والشعوب الأوروبية أيضاً، بما فيها الدولة الألمانية وشعبها، ولكنه بصورة أشد لدى المملكة المتحدة التي تركزت فيها قيادة الغرب، وبعض أجزاء العالم لأكثر من قرن قبل نقل هذه الزعامة العالمية رسمياً من البرلمان البريطاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1949، فبريطانيا هي التي طلبت رسمياً من الولايات المتحدة الأمريكية تولي شؤون العالم بالنيابة عن بريطانيا، بسبب تراجع القدرة البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد حاول الرئيس الفرنسي ماكرون استغلال الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، والتقاء رؤساء العالم في باريس بتقديم اقتراحه بإنشاء جيش أوروبي حقيقي قبلها بأيام قليلة، وهو يعلم أنه يثير المخاوف والرفض الأمريكي لهذا الاقتراح، وهو ما تحقق فعلاً، فقد كان رد الفعل الأمريكي على لسان الرئيس الأمريكي ترامب صارخا وغير دبلوماسي بحسب الوصف الفرنسي، فقد وصف ترامب اقتراح الرئيس ماكرون حول تأسيس جيش أوروبي حقيقي بأنه: «مهين جدا»، وقد جاء تصريح ترامب قبل لقاء الرئيسين في باريس يوم الاحتفال.
لم يتوقف تصريح ترامب على ذلك، بل كانت نظراته إلى الرئيس ماكرون نظرات ازدراء أثناء اللقاء بينهما، وطالبه في ذلك الاجتماع بأن تقوم فرنسا بتسديد ما عليها من حصة لميزانية حلف الناتو، وعدم التفكير بحلول أخرى، ومستهجنا قوله بأنه يريد من خلال ذلك الاقتراح حماية فرنسا من الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، أي أن ترامب ضد الاقتراح الفرنسي، ولكن لم يقدم أجوبة على مخاوف الرئيس الفرنسي التي قال فيها ماكرون :»إن على أوروبا أن تحد من اعتمادها على القوة الأمريكية، ولا سيما بعد قرار ترامب الانسحاب من اتفاق للحد من الأسلحة النووية وقّع في الثمانينيات»، معللاً ذلك بالقول إن:»علينا أن نحمي أنفسنا تجاه الصين وروسيا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية». ويعتمد ماكرون على رؤيته هذه بسبب مواقف ترامب النووية، إذ قال: «حين أرى الرئيس ترامب يعلن انسحابه من اتفاقية كبرى لنزع السلاح، أبرمت بعد أزمة الصواريخ في أوروبا في الثمانينيات، من سيكون الضحية الرئيسية إذن؟ أوروبا وأمنها».
هذه المخاوف الفرنسية الحقيقية من أن تكون أوروبا ضحية الصراع الأمريكي الروسي أو الصيني لم يتناولها ترامب، ولم يعلق عليها بجدية، بل ذهب إلى وصف تصريحات ماكرون بـ»المهينة جداً»، حدث هذا قبل لقائهما في القمة الاحتفالية، وقال ترامب مذكراً ماكرون أو متهكماً بأن:» ألمانيا هي من يقف وراء الحربين العالميتين».
وكأن ترامب يريد أن يقول لماكرون بأن اتباعك لألمانيا بهذا المقترح سيؤدي بك وبأوروبا إلى حرب عالمية ثالثة، أي أنه يتهم ألمانيا ولو بطريقة غير مباشرة بأنها هي وراء الاقتراح الفرنسي بإنشاء جيش أوروبي خاص، فكتب ترامب، على «تويتر» بعد رجوعه إلى أمريكا: «ماكرون يقترح تشكيل جيش خاص له لحماية أوروبا من الولايات المتحدة والصين وروسيا.. إلا أن ألمانيا هي التي أشعلت الحربين العالميتين الأولى والثانية، فماذا نتج عن ذلك لفرنسا؟ لقد بدؤوا تعلم اللغة الألمانية قبل دخول الولايات المتحدة على الخط»، وختم ترامب تغريدته مخاطبا ماكرون: «عليك أن تختار بين دفع الأموال للناتو من عدمه»، وهذه لغة غليظة وغير دبلوماسية.
هذه درجة من الخلافات الفرنسية الأمريكية، لم تكن معهودة في الخطاب السياسي والدبلوماسي بينهما، فالرئيس الفرنسي صدم ترامب والأمريكيين بأن أوروبا بحاجة إلى جيش يحميها من أمريكا، كما يحميها من روسيا والصين، ولكن الرئيس الفرنسي علل ذلك بسبب مواقف الرئيس الأمريكي ترامب بالانسحاب من معاهدات نووية مع روسيا، وهذا سيؤدي إلى سباق تسلح نووي مرة أخرى، فإما أن تكون أوروبا مضطرة للمشاركة في هذا السباق النووي، أو أن تكون ضحية هذا الصراع الروسي الأمريكي على الأراضي الأوروبية، وحجته الأخرى بضرورة تأسيس هذا الجيش الأوروبي، ليس بالضرورة أن يجد كل هذه المعارضة الأمريكية، كما قال الرئيس ماكرون إنه: «ليس من العدل أن نضمن الأمن الأوروبي بالاعتماد فقط على الولايات المتحدة»، فما هو الخطأ ان تطالب الدول الأوروبية بأن يكون لها جيش حقيقي لا تكون امريكا شريكا فيه، وفي الوقت نفسه لن يكون بالتأكيد ضد أمريكا، إلا إذا أقدمت أمريكا على مهاجمة أوروبا عسكرياً، أما الحرب الاقتصادية بينهما بعد مجيء ترامب فلها أجوبتها الأوروبية أيضاً، وهذا يعني ارتفاع درجة الخلاف الأمريكي مع حلفائها الأوروبيين، وهو ما سوف يغير في مستقبل أوروبا، فمواصلة أمريكا فرض رسوم جمركية عالية على المستوردات من الدول الأوروبية، سيؤدي في النهاية إلى تصدع التحالف الغربي، وإن من أكبر الأسباب سياسات الرئيس ترامب المالية والاقتصادية.
*نقلاً عن :القدس العربي