كان أمراً مثيراً للدهشة أن يقوم سيرغي كيسلياك، السفير الروسي في واشنطن، على شاشة التلفزيون الرسمي الروسي، باتهام النظام السياسي في الولايات المتحدة بتقصد التآمر ضد روسيا… وترامب، واضعاً الرئيس الأمريكي في كفة واحدة مع روسيا ضد المؤسسة (الاستابلشمنت) الأمريكية، التي يعتبر الكونغرس والقضاء والإعلام أهم رموزها.
يأتي هذا بعد إعلان مستشار الأمن القومي الأمريكي مايكل فلين استقالته من منصبه بعد انكشاف اتصالاته المتعددة مع السفير المذكور في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عقوبات جديدة ضد روسيا بسبب تدخلها في الانتخابات الرئاسية.
اتصالات فلين السرّية تلك حملت تطمينات للإدارة الروسية بأن العقوبات سيتم رفعها لاحقاً، وهو ما يعتبر، عمليّاً، تآمراً من مواطن أمريكيّ ضد إدارته السياسية التي يمثلها أوباما، وبالتالي يحمل تواطؤاً (وعلى الأغلب اتفاقاً) مع ترامب الذي كان ينتظر تسلمه السلطة بعد فوزه بالمعركة الانتخابية ضد هيلاري كلينتون.
تردد البيت الأبيض في تأكيد اتصالات فلين بالسفير الروسي يعود إلى كون الحادثة ستمثل خرقاً لقانون «لوغان» الذي يمنع المدنيين من التفاوض باسم السلطات الأمريكية وهو ما سيضع إدارة ترامب، مجدّداً، تحت الضغط السياسي والإعلامي الذي لم يتوقف منذ استلام الأخير السلطة قبل 27 يوماً.
كان مسلّياً، على الجبهة الروسية، أن بعض المسؤولين والنواب الروس اعتبروا استقالة مستشار الأمن القومي الأمريكي «صفعة لروسيا»، كما فعل اليكسي بوشكوف، النائب في الدوما وزعيم لجنة العلاقات الخارجية السابق فيها الذي قال إن طرد فلين «موجّه ضد روسيا»، وأن «الهدف التالي هو ترامب»، كما لو أن ترامب موظّف عند بوتين وأن استهداف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية هو استهداف لروسيا!
المواقف الرسمية الروسية التي لا تخفي تعاطفها مع ترامب ودفاعها عنه كانت قد قابلتها مواقف مشابهة عديدة لترامب تجاه بوتين وروسيا وخصوصاً في موضوع رفع العقوبات والواضح أن «استقالة» فلين هي قمّة جبل الجليد الذي يمكن أن يخفي أسراراً أكثر يفضح كشفها هشاشة الأنظمة الديمقراطية وإمكانيات التلاعب فيها من الطرفين.
آخر ما جرى من تطوّرات في هذا الشأن كان ما قاله ريتشارد فيران الأمين العام لحزب «إلى الأمام» الفرنسي حول وسائل إعلام ومتسللين للانترنت من داخل روسيا يستهدفون مرشح الحزب في انتخابات الرئاسة إيمانويل ماكرون بهدف مساعدة منافسيه المؤيدين لموسكو، وهما العنصرية المتطرفة مارين لوبان، التي تربط حزبها علاقات مالية وسياسية بموسكو وتؤيّد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم وأجزاء من أوكرانيا كما تؤيد سياسة الخروج من الاتحاد الأوروبي، والمرشح اليميني فرانسوا فيون، الذي أعلن أكثر من مرة إعجابه ببوتين وسياساته.
ويطرح نشر وسائل إعلام إيرانية تقارير تتهم المخابرات الروسية بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة لمصلحة مرشحين موالين لموسكو، وهي الدولة الحليفة لروسيا، وجود نمط عامّ في السياسة والاستخبارات الروسية لاستخدام التقنيات العولمية الحديثة للقرصنة ووسائل الإعلام إضافة إلى الوسائل الاستخباراتية التقليدية في التأثير غير المسبوق على آليات الانتخاب والاستقطاب والنفوذ في العالم الأمر الذي يطرح أسئلة كبرى حول هذه الظاهرة وأسباب شيوعها واستفحالها.
الاستخدام «الحربيّ» الروسي للتكنولوجيات الحديثة يكشف ببلاغة وبشكل عمليّ مواضع تهتّك الأنظمة السياسية في العالم وانجذاب البشرية التدهوريّ نحو النموذج الروسي الذي يقدّم، في باقة متكاملة، الزعيم الفرد الذي يغتال معارضيه ويوظّف أوليغارشية المال والسياسة لتخديم أهدافه، وتحالف الشعبوية والعنصرية مع المافيات والفساد.
القدس العربي