حورية كياري
تملكني الرعب ذات ليلة كنت فيها لوحدي، أحسست أن البيت بدأ يهتز، كانت الساعة تشير إلى العاشرة وخمس دقائق مساءً، بدأت أشعر أن عقارب الساعة توقفت عن الدوران، قُطعت الكهرباء، هرولت إلى النافذة لأبحث عن أخي، فوجدت أغلب نوافذ الجيران مغلقة، نظرت إلى الشوارع لم أجد أحداً، شوارع مظلمة مرعبة، بقيت لوحدي سلمت أمري إلى الله، لم يكن لدي أي رغبة سوى النظر إلى صورة اخي المعلقة على جدار الغرفة المظلمة، الشيء الوحيد الذي حز في نفسي أن تركت أخي وحيداً في سوريا بين الحرب والموت والدمار، أشرقت الغرفة نوراً، أحسسته بجانبي دنا مني في امتنان، شعرت بنظرته الطيبة الشجاعة تحتويني، تمسح عني آلام الغربة وقساوة الحرب، أحسست بحنانه القديم يغطيني، أحسست ب جدي الذي كبرت وترعرعت على يديه، فجثوت على ركبتيّ، مدّ يده ومسح على وجهي، ومن ثم ضحك وهو يعاتبني: وجهكِ شاحب، قد أهلكه التعب والإرهاق؟
أجبته على الفور: الدنيا فعلت بي هذا، الحرب في بلدي قد أخذه مني أخي وفعلت بوجهي هذا.
لاحظت أن وجهه غدا مشرقاُ جميلاً يشع نوراً، سألني أين اخوتك ووالدكِ وابنتي (التي هي والدتي) ؟؟؟
صمتّ للحظات، وقلت له: أخي استشهد في سبيل الوطن، وامي ها هي تبكي عليه كل ليلة، ووالدي على ارض الوطن يناضل في سبيل حرية سوريا من الظلم والاستبداد.
بانت الحسرة في صوته، وعاتبني: لماذا تركتِ أخاكِ لوحده يستشهد هناك؟؟؟
أجبته بصوت عالي مليءً بالبكاء: هناك في سوريا حرب مدمرة تقتل الحجر والبشر، حاولت أن أصطحبه معي إلى هنا لكنه لم يأتي، كان يقول لي باستمرار:
” لن اترك سوريا هذه بلدي سأدافع عن ارضي وكرامتي واحارب بشار المجرم حتى أخر يوم في حياتي”
شرد قليلاً، ونظر إلى صورة أخي المعلقة على الجدار لبضع دقائق، ومن ثم عاود النظر بي، كانت نظرته تجمع اللوم والعتب مع قليل من الحب.
قال لي بصوت خافت هذا حفيدي قصي الشهيد البطل، ومن ثم ضحك بصوت عالٍ وقال لي: لا تحزني يا صغيرتي أخاكِ هنا، معي في جنان الخلود.
للحظات قليلة كل الأوجاع وقهر الزمن مرتّ أمامي كشريط فلم سينمائي، وعدت بذاكرتي الى هذه التفاصيل المؤلمة:
قبل أن ينقلوه لمشفى مرضى العضال، ظل يدعي لقصي، ويقول له:” الله يحميك ويرضى عليك”.
قال له قصي وهو يدفع به بعربة المشفى: شهر أو شهرين وستعود أحسن مما كنت عليه يا جدي الغالي.
ظل أشهر وسنين يعاني من هذا المرض الخبيث، وكلما زرناه كان يقول لقصي: شهر أو شهرين؟؟، ها أنا هنا منذ أشهر طويلة.
فيجيبه قصي: “يا جدي إن مت أنت قبلي تأكد أنني سوف الحق بك بعد زمن قصير”
اليوم الذي عاد فيه جدي للبيت، كان داخل تابوت، أعاد أخوالي غسله، وشيع جثمانه من المسجد القريب من البيت بعد صلاة الظهر.
كان قصي يبكي ويقول: “سوف الحق بك يا جدي”
اللحظة التي اختلستها للنظر إليه، بات ازرقاق في وجهه، وكان شعره الغزير قد غزاه الشيب، لكن نظرة طيبة كانت تشيع في ملامحه.
مضى خمس سنوات على موته، وفي كل ليلة يبكي قصي ويقول: “اشتقت لجدي”، إلى أن جاء يوم السبت الموافق 3كانون الثاني عام 2015م، كان الجو بارداُ وبدا الليل يمسي، وكنت قبل أيام أشعر بشيء ما يخنقني، وجاء هذا اليوم اللعين الذي تلقيت به خبر استشهاد توأم روحي قصي، غدت الحياة بعيني لا طعم لها ولا لون، أحسست أن كل شيء في حياتي انهدم.
فتحت عيناي بعد أن سمعت صوت جدي يتكلم، وقال: “أنا ذاهب، انتبه على والدتك ووالدك، هم الأن أمانة لديكِ أعطيناك إياها أنا وأخاكِ قصي”
فتحت عيناي وانا أصرخ بقوة: “أين أنتما؟؟ عودوا إلى هنا لا تتركوني وحيدة في هذه الحياة المليئة بالحرب والخوف”
نظرت حولي لم أرى أحد، هما الآن يسكنان باطمئنان في جنان النعيم، وأنا وحدي، ارتجفت، وكياني يهتز، ودموعي تنهال بغزارة، لأطلب منه أن يُحضر قصي لأراه بعض الوقت، فسمعت صوتاً رقيقً يهمس في أذني: تماسك ها أنا هنا بجانبك، أنت أخت الشهيد البطل، فكان هذا الصوت صوت نور عيني
” قصي”، كدت أن ألقي بنفسي من النافذة لشدة الفرح، يده قبضت على معصمي، وجدته أقوى من كل الرجال، وقال لي بصوت حنون:” اصعدي فوق أحزانك، تماسكِ يا أختاه، مسح دموعي، وبقيت أنظر إليه بنظرات فرح ممزوجة باليأس، أخذ يدي، وفك أصابعي، ووضع يده أمام يدي، وقال لي: “هيا لنلعب حجر ورق مقص”
انتشيت بالضحك، وهو لم يهملني، إذ أخذ وجهي بين كفيه، وقال لي: “لا تقلقي سوف تتحرر سوريا من الظلم والطغيان، وها أنا بجانبك لا تخافي لن أتركك، فأجبته على الفور:” هل أنت سعيد وبخير؟؟”، فضحك بصوت عال لدرجة أحسست أن المنزل سينهدم من عزم ضحكته الملائكية، وأجابني:” أنا في جنان الخلود”، فشعرت براحة عميقة تسكن روحي، حدثته بإصرار، لم أعهده في نفسي: “سوف تتحرر سوريا، سوف أعبر المحنة يا أخي”
اهداء إلى روح الشهيد قصي كياري
المصدر: اتحاد الديمقراطيين السوريين