طالبتان توءمان بين طيران النظام والذكريات

في معهد للدورات الخاصة في المدينة، طالبات الثالث الثانوي يدخلن لدرس الفلسفة واحدة تلو الأخرى، يستغلنَ فرصة تأخر الأستاذ قليلا لتحادث كل واحدة صديقتها.. جلستُ بجانب صديقتي “رهام” التي لطالما اعتدت على الجلوس بجانبها هي وأختها التوأم “إلهام”.
– “إلهام وين؟”
– “هي بالبيت قال مو جاي عبالا تجي” تكمل رهام وهي تضحك ” قال مو سخيانة تقوم من تحت الحرام مشان تشوف السيد أحمد”، تقصد أستاذنا بتهكم.
دخل الأستاذ أحمد معبرا عن أسفه، يلتقط أنفاسه وكأنه قد ركض مسافة لا بأس بها “والله يا بنات وأنا جاي سمعت صفارة الإنذار قلت يالله يا زلمي ما بصير غير إلي كاتبه ربك.. بعدين نكست الطيارة حطيت وصرت الركض ودخلت أول بناية بشوفها بوجهي انتظرت لراحت الطيارة وجيت.. في بالي ما اتأخرت كتير”.
يكمل الأستاذ ” يالله لنراجع يلي أخدناه البارحة.. يرى تشو ميسكي فيجو تيسكي بأن…” قاطعت رهام تركيزي وهي تلكزني بقدمها وتقول: “يخرب بيتو هاد اسمو لحالو بدو راشية” اكتفيت بابتسامة صغيرة رغم أنني كنت أرغب بالضحك.
صوت صفارة الإنذار يسرق رغبتي بالضحك ليزرع مكانها الخوف يكمل الأستاذ الدرس محاولا أن يصرفنا عن الصوت رغم أن الخوف ظهر في عينيه، انقضاض الطائرة وصوت متسارع باتجاهنا، صفير صاروخ يمر من فوقنا ربما يسقط فوقنا أو فوق غيرنا، صوت انفجار هائل يخيم الصمت بعده، كلنا نفكر يا ترى أين انفجر؟ هل هناك ضحايا كثيرة؟ هل أهلي بخير؟
يكسر الصوت صوت الجهاز اللاسلكي (القبضة) القادم من غرفة الاستقبال “الحربي نفذ وبالدوران” ليأتي من بعدها صوت رنين الهاتف الذي رفض أن يصمت كما صمتنا نحن، الفتيات يخرجن من القاعات، الأهالي قد جاءت لتأخذ بناتها، يدخل أحد الأهالي ليأخذ ابنته لاقطا أنفاسه التي يمكن أن تكون أنفاسه الأخيرة، سأله الأستاذ “وين نفذ؟” يتأخر الأب بالرد، كان ينظر لابنته وكأنه غير مصدق بأنها ما زالت على قيد الحياة لينتبه بعدها إلى سؤال الأستاذ ويجاوب وهو ما زال ينظر إلى ابنته “عم يقولو عند جامع سعد”.
نظرت حينها إلى رهام فمنزلها عند جامع سعد، لاحظت تغير لون وجهها وزيادة رجفان يديها وقدميها، قلت لها: “إن شاء الله بعيدة عن بيتكن بجوز من الطرف التاني” كنت آمل في داخلي أن يكون كلامي صحيحا، كسرت رهام صمتها لتقول: “يا ربي دخيلك يا رب تكون بعيدة”. حاولت رهام أن تضبط نفسها لكنها لم تستطيع، بدأت عيناها بالاحمرار وتسقط أول دمعة على خدها لتحرقه وتحرق قلبي معها..
– “لا تخافي إن شاء الله ما في شي، عكل حال خلينا نقوم نتصل عبيتكن ومنتأكد” نهضت رهام وهي تمسح دموعها، ذهبنا لغرفة الاستقبال التي تعج بالطالبات اللواتي يردن أن يكلمن أهاليهن، وأخيرا استطعنا الوصول إلى الهاتف، اتصلت رهام على أهلها على أمل أن يرد عليها أحد من أهلها يطفئ النار التي اشتعلت في قلبها من لحظة سماعها بمكان التنفيذ، أغلقت السماعة ويداها ترتجفان، دون أن تنطق بأي كلمة.. خرجت مسرعة بالرغم من تحذيرات الجميع لها بعدم الخروج، لم أستطع الخروج معها بسبب خوفي من عودة الطائرة، نفذت الطائرة غارتين في مكان آخر في المدينة.
عندما وصلت للمنزل أسرعت لأرى الأخبار على صفحة “فيس بوك” لأرى خبر”عشرة شهداء وخمسة جرحى جراء القصف على مدينة إدلب”.
دخلت إلى صفحات الأخبار لأعرف أسماء الشهداء فأرى من بينهم اسم “إلهام الأسعد” واسم أمها بين أسماء الجرحى، صعقت بالخبر لم أستطع البكاء بل لجأت للصمت، جلست لساعات وساعات.. أتذكر أحاديثنا التي لم ننهها، تذكرت اضطرابها في الدرس الذي سبق الدرس الكارثي، نعم إنه كارثي لم أستطع أن أصفه إلا بالكارثي، لقد كان سبب اضطرابها بسبب خلافها مع أمها ولكنها لم تقل لي سبب الخلاف بعد.. ذهبت قبل أن تقول لي.
في اليوم التالي لليوم الكارثي اتصلت بي إحدى زميلاتي في المعهد لتقول لي بأنهن ذاهبات إلى منزل عمتها لرهام بعد الدرس لمواساتها في هذه المحنة وعرضت علي الذهاب، لكني رفضت الذهاب معهن لأنني لم أتجرأ لرؤيتها بعد، أغلقت الهاتف واتجهت إلى غرفتي عندها سمعت صوت أمي تقول لي: “يا بنتي هيك ما بصير رفيقتك توفت الله يرحمها كلياتنا على هاد الطريق، يالله قومي توضي وصلي وبلشي بختمية قرآن لألها ما بتفيديها غير بهاي الطريقة وأنا وأخواتك منساعدك وبعدين مو اليوم عنك درس لازم تروحي علي” ومع إصرار أمي ذهبت للدرس، دخلت للقاعة كانت الطالبات يخططن للذهاب إلى العزاء حاولت تجاهلهن قدر الإمكان، جلست في المقعد وحدي، دخل الأستاذ وبدأ في أخذ الحضور كانت كل الطالبات حاضرات ما عدا رهام وإلهام، توقف الأستاذ عند اسم رهام فتذكر المأساة ويكمل اسمها بصوت منخفض لينتقل إلى اسم إلهام لم يلفظه كاملا لقد اكتفى بقوله “إل…” خيمت دقيقة صمت ثم بدأ الدرس لم أكن أسمع وأي كلمة من الدرس إلا كلمة واحدة “تشو ميسكي فيجو تيسكي لأتذكر آخر ضحكة ضحكناها أنا ورهام.
انتهى الدرس تجمعت الطالبات ليذهبن إلى رهام أما أنا فذهبت إلى المنزل، اتصلت بصديقتي “ليلى” بعد ساعتين من مجيئي لأرى إذا غادرت من عند رهام فقالت لي بأنها قد عادت منذ نصف ساعة هي والفتيات، أغلقت الهاتف دون حتى أن أودعها وارتديت ملابسي وذهبت إلى منزل عمة رهام، لقد اخترت الذهاب لوحدي لا ليس لوحدي وإنما ذكرياتي معها ترافقني وأنا بطريقي إلى المنزل تذكرت أن عمتها ذات طباع سيئة وتذكرت حديث رهام وإلهام عنها كانت إلهام دائما توبخ أختها لأنها تتحدث عن عمتها بطريقة غير لائقة فرهام كانت ذات طباع حادة على عكس إلهام، فإلهام كانت ذات قلب طيب جدا، وصلت إلى المنزل كان هناك الكثير من الأحذية على الباب.
فتحت لي عمة رهام الباب ونظرت لي بانزعاج وكأنها سئمت من فتح الباب
– “السلام عليكم خالة، عظم الله أجركم”.
– أهلين وعليكم السلام، شكر الله سعيكم” صاحت “رهام تعي شوفي رفيقتك ع الباب” وأكملت متمتمة “قاعدة ناطور إلك ولرفقاتك”
جاءت رهام ونظرت إلي وكأنها تنتظر مجيئي أو تعاتبني لأنني تأخرت بالمجيء كانت كأنها قد كبرت بهذين اليومين سنتين، كانت عيناها متورمتان من شدة البكاء وغمازتها الجميلة التي كانت دائما على وجهها لم يعد لها مكان في وجهها، أسرعت إلى ضمها..
– “عظم الله أجركم، الله يرحمها ويتقبل شهادتها كلياتنا على الطريق”
– “آمين يا رب”.
تحاول رهام قدر الإمكان أن تكبت دموعها فهي الآن مصدر القوة لأمها المصابة وأخيها الصغير.
“تفضلي تفضلي” تقولها رهام وهي تصطنع الابتسامة، دخلنا إلى غرفة صغيرة يوجد بها الكثير من الأغراض، جلسنا على اسفنجتين ملتصقتين بالأرض تقريبا.
– “أي كيفها أمك كيف صارت؟”
– ( أجابتني رهام وهي ما زالت تصطنع الصمود) “آآآآخخ أمي”.. لتطلق بعدها تنهيدة عميقة وتكمل “أمي الله يعينها ليل نهار عم تلوم حالا وعم تقول يا ريت خليتا تروح على الدرس غصبا عنها، يا ريت ضليت لحالي بالبيت ومتت أنا” وتكمل رهام ” ما بكفيا إصابتا بإيدا”.
هنا لم تستطع رهام الصمود أكثر لتذرف الدموع من عينيها وكأنها ينبوع قد فاضت مياهه تكمل وهي تبكي بحرقة “ما عم تروح تفاصيل هداك اليوم من بالي، وصلت ع البيت وانصدمت كان في كتير ناس متجمعين وسيارات إسعاف ورافعات، قربت منن لشوف بدال بيتنا أنقاض، حاولت شيل من راسي فكرة أنو ممكن حدا من أهلي يتركني ويروح، كنت عم أتمنى أن توقف المصيبة عند دمار بيتنا بس المصيبة إلي إجتنا كانت أكبر من أمنياتي كلها”.
أكملت رهام بصوت منخفض تخنقه عبرات البكاء “ما فيني أوصفلك شعوري وقت شفتن عم يطالعوا أمي من تحت الأنقاض، كانت عم تمشي مع رجال وعم يساعدوها مشان ما توقع، ركدت لعندا مشان ساعدا، كان الدم عم ينزل من راسا وإيدا، كنت عم ساعدها مشان تركب بسيارة الإسعاف بس ما قبلت تطلع، كانت بدا تطمن ع إلهام، بنفس اللحظة أجا صوت واحد من الدفاع المدني ” لقينا بنت هون” حسيت قلبي وقف بهلحظة كنت عم انتظر حدا يقلي الحمد الله الجروح خفيفة، بدأت الرافعات برفع الأنقاض رأيتهم وهم يرفعون الأنقاض تأكدت بلحظة أنو ما رح ارجع شوف أختي”.
تتوقف رهام لبضع لحظات لتبكي بصوت عال فاكتفيت بالصمت لأنني إذا تكلمت سأبكي معها
تكمل رهام “لما شفت جثة أختي حسيت بأحاسيس كثيرة حزن، خوف، قهر حتى ما أجتني فرصة أبكي عليا لأنو أمي وقت شافتا فورا وقعت بالأرض، طلعنا بسيارة الإسعاف ومنظر أختي ما عم يفارقني وبالي عند البيت، ما كنت بعرف لسا أنو أبي وأخي ما كانوا بالبيت، وصلنا ع المشفى أخدوا أمي ع قسم الإسعافات الأولية، وأنا وقتا لقدرت أبكي، كانت ريحة الدم بكل المشفى”..
توقفت رهام عن الكلام لتبكي بصمت ليقاطع صمتنا صوت انكسار زجاج لنسمع صوت عمة رهام وهي توبخ “لك الله لا يوفقك شو عملت، الله يلحقك بأختك” تغيرت ملامح رهام فيظهر عليها الغضب، سمعنا بعد هذا الدعاء القاسي صوت صفعة قوية، تذهب رهام بعدها إلى المطبخ وتقول “شو في؟” لتجاوبها عمتها: “أخوكي كسر صحن وخرب طقم الصحون قال شو جوعان تاكل سم ان شالله”
تكتفي رهام بالصمت وتجلب أخيها معها إلى الغرفة ” أنا مو قلتلك قعود هون ولا تطلع لبرا، ضروري تسمعنا صوت شم قرين” [شم قرين لفظ يقال لفتاة يكرها الشخص] ليجاوبها فؤاد وهو يبكي متألما من الصفعة التي تركت أربع أصابع على خده الأبيض الممتلئ “كنت جوعان” تتغير ملامح رهام وكأنها قد شعرت بالندم لأنها وبخته لتقول له بصوت حنون” كنت قلب بعملك بلا ما نسمع صوت أم أربع عيون” [أم أربع عيون لفظ يقال لشخص يضع نظارات طبية للاستهزاء به] ضحك فؤاد وهو يمسح دموعه “يا لله أنا رايحة أعملك أكل” تتجه رهام نحوي وتقول: “عن إذنك أنا رايحة أعمل أكل لفؤاد وبعمل قهوة وبجي”
ذهبت رهام إلى المطبخ بينما انشغلت أنا باللعب مع فؤاد لعبته المفضلة “وزززززز” إلى أن جاءت رهام، نظرت رهام إلى الأغراض المتكومة فوق بعضها وقالت متحسرة “هادا الي بقي من بيتنا، يالله الحمد الله عكل حال” شربت القهوة ونهضت للذهاب وقلت لها: ” أنا صار لازم ارجع ع البيت، برجع بجي بكرة سلميلي عأمك وأبوك” تنهض رهام لتوصلني للباب، وتهمس في إذني بلا ما تجي بكرا لأن عمتي موح ابة حدا يجي.. احتلطت مشاعر الغضب والدهشة والألم في بوتقة روحي المحزونة.. ما أشد قسوة البشر!
إلى متى سنبقى على هذا الحال؟!
إلى متى سنفقد أحبائنا بهذا الشكل الفظيع؟!
إلى متى إن لم تصبنا تصب جارنا أو رفيقنا أو من نعشق؟!، ولمن نعشق قصة أخرى مع طيران القتل والتدمير.
ضحى الحاج حسن – المركز الصحفي السوري

اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا

 

المقالات ذات الصلة

النشرة البريدية

اشترك ليصلك بالبريد الالكتروني كل جديد:

ابحثهنا



Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist