أمام ركام المباني المدمرة، ولطخات الدماء التي لم تجف بعد، وقف “مصطفى” وقفة تأمل بعد أن أفلت يد والدته بغضب وبدأ يتحدث بصوت طفولي غير مفهوم غلب عليه الحزن :” أنا بعرف وين جدي، جدي ما مات، جدي موجود تحت الحجارة، هوي متخبي وخايف”، ونظر لوالدته نظرة ألم وأكمل دمدماته ” انتي مابتحبي جدي لو بتحبيه كنتي ساعدتيني نطالعو من هون”.
لصغر سنه هو غير مقتنع أن جده لم يمت، فقد استهدفت غارة روسية سوقا في مدينة إدلب في 12 من حزيران الجاري راح ضحيتها أكثر من 50 شهيدا وعشرات الجرحى جراء انفجار عدد من أسطوانات الغاز والمحروقات في مكان القصف، وجدّ مصطفى كان من بين الضحايا يومها، ولم يتمكنوا من إيجاد جثته من شدة القصف فربما تحولت لأشلاء بعد أن تفحمت نتيجة الحريق الذي اندلع في كل شبر من السوق.
قد تتساءل لمَ طفل صغير لمْ يكمل خمس سنوات من عمره يصر على أن جده لم يمت، رافضا أن يتقبل الواقع، فالأطفال في عمره ينسون بسرعة ويشغلون أنفسهم باللعب، لكن مصطفى ذاق اللوعة مرتين، إذ فقد والده منذ سنة بعد إصابته بشظية في رأسه، فوجود جده بحياته وحياة إخوته كان بمثابة رحمة من الله عوضهم فيها عن حنان وعطف الأب بمداعبته لهم وكلماته وقصصه التي تدق مسامعهم كل لحظة.
تقول “نسرين” والدة مصطفى :” كان والدي يبيع أنواعا مختلفة من السكاكر على بسطة صغيرة في السوق، وجميع أهل السوق والأطفال ينادونه ” أبو الدروبس”، يحب أطفالي الأيتام وعندما يعود كل مساء من السوق يخبئ خلفه كيسا مليئا بالسكاكر والحلوى التي يعشقها الأولاد ليفاجئهم بها”.
وتضيف باكية :” كنت أنسى حزني ووجعي بفقدان زوجي عندما يطل أبي بعطفه ويشعرني وأطفالي بالأمان والطمأنينة، فلم يتبقَّ لي أحد بعد الآن، وعندي أخ معتقل عند النظام منذ عامين ولا نعلم عنه شيئا، يزداد حزني كلما نظرت بعينَي والدتي أيّ صبرٍ تتحمله يبقيها صامدةً حتى الآن”.
تمنت نسرين لو أنهم وجدوا جثة والدها أو شيئا منه لتقنع أطفالها أن من كان يحنو عليهم قد رحل، وكلما مرّت من السوق تراءت لها صورته واقفا أمام بسطته وينادي الأطفال ليشتروا منه السكاكر.
ليست قصة معاناة من نسج الخيال، فمن يعيش في بلدي سوريا يسمع المعجزات ويشاهد ما عجز المخرجون عن ابتداعه، فوحشية النظام فاقت حد الوصف، ما ذنب أولئك الأبرياء وغيرهم من شتى أنحاء سوريا ليقتلوا؟ هل هم مجرمون؟ أم إرهابيون؟ أم أن الله أحبهم واختارهم في شهره الفضيل لتتوج شهادتهم أعمالهم؟ ويعود مصطفى ويقول لأمه ” جدي ما مات وأنا متأكد أنو عايش”، نعم يا صغيري فالشهداء.. هم “أحياء عند ربهم يرزقون”.
المركز الصحفي السوري ـ سماح الخالد