يُقال .. لا يغفو قلب الأب إلاّ بعد أن تغفو جميع القلوب .. و يُقال أيضاً ” ليس هناك فرح أعظم من فرح الابن بمجد أبيه و لا أعظم من فرح الأب بنجاح ابنه “.
يربي الآباء أبناءهم ويسعون لتعليمهم وإرشادهم إلى الطريق الصحيح بكلّ ما يملكون ولو أجبروا على بذل الغالي والنفيس، وكم يشعر الأب بالفرح عندما يرى ابتسامة قد حطت رحالها على شفاه أولاده، فكيف يكون الحال بمن ربّى وكبّر وصفعه القدر صفعة القهر والحرمان.
فبعد اندلاع الثورة السورية بات شعبها بين محروم و مكلوم وبين جريح وفقيد، وهذا حال العم أبو غسّان الرجل الذي صفعه القدر عدّة صفعات متتالية، الرّجل الّذي أحنى القهر ظهره وقلبه معاً.
أبو غسان .. هو رجل خمسيني من قرى ريف حماة، حيث خصوبة الأرض ونقاء الروح وامتزجت مؤخراً بألم الحرمان والعذاب الذي فاق الجبال بعد أن دمّرت طائرات النظام السوري بيوتها وأحجار أرصفتها، ولوثت نقاء طقسها بشوائب البارود والنّار.
يحكي أبو غسان قصته وآثار القهر تنبض في عروق جبينه البارزة وكأن الدّهر يحاول مراراً وتكراراً أن يخنقه بنوائبه العظيمة فتنتفض العروق بردّة فعل لا إرادية يرافقها تقلّص شديد في راحتي كفيه الّذين يعارك بهما ظروف الحياة القاسية.
“كان حالي كحال أي موظف سوري يعيش حياته متخبّطاً بين تأمين قوت اليوم والخوف من متطلّبات الغد” وبإلتفاتة تفحّص فيها المكان بعينين بنيتين ترجفان تحت وطأة البؤس والألم، أردف قائلا ” كان كل همي أن أؤمن كل المتطلبات التي تساعد أبنائي في تعليمهم وشغلي الشاغل أن أراهم وقد أتمّوا تعليمهم”.
حمل صورة لابنه غسّان وتمعن فيها وكأنّه يحاول جاهداً أن يبثّ فيها الروح وينبت منها الجسد بعد سقايته بدمعاته المتساقطة “غسّان هو أكبر أولادي وهو فرحتي الأولى في ريعان الشباب، ربيته وفي قلبي أحلام كنت أقترب من تحقيقها برؤيته شاباً ليس كأيّ شاب” أدار الصورة نحوي ليريني انكسار روحه “قبل غسان في كلية الآداب في جامعة تشرين في قسم الجغرافيا وقد أنهى ثلاث سنوات من دراسته دون أي عقبات ولم يتبق إلا أن ينهي سنته الرابعة كي أراه معلماً يحظى باحترام من حوله”.
وبإبتسامة باردة يشوبها العذاب يكمل “كان دائم التحدّث عن اللاذقيّة وجمالها وسحرها، تفاصيل أزقتها وتقاسيم حاراتها بالأبنية والطوائف فكان يحكي عن حارة القلعة وشعبها السني المحترم ومشروع أفاميا وأهله العلويين الطيبين وعن الرمل الجنوبي وبساطة أهله وكلماتهم الجميلة”.
أبت الدمعات الوقوف على حاجز الأهداب لتختلط بالكلمات “في الخامس عشر من كانون الثاني 2014 تم احتجاز غسان على حاجز في بيت ياشوط وبدأت عذابات البحث عنه في فروع الأمن والجيش وبلا جدوى، فحبّه لطوائف بلده وحبه لبلده لم يشفعا له عند من لا يأبه بمعنى الحب والوطن”
“لم أترك باباً إلاّ وطرقته راجياً الحصول على أي معلومة عن ابني المفقود خلف قضبان الظلم ودائماً ما كان يتم استغلالي بمبالغ مالية ضخمة فقط لمعرفة ما إن كان لا يزال على قيد الحياة”.
و بإشارة إلى أصابع يديه المتقوّصة وكأنه يواسيها وتواسيه “ألجأ للعمل بما يصح لي من أعمال تقليم الشجر وتحميل الثمار وحرث الأراضي وللأسف أصابني شدّ في أوتار أصابع اليد بسبب التشنّج وقمت بعمليتين جراحيتين ولم تثمرا نجاحاً”.
“أحمد ابني الثاني ذهب إلى تركيا وهو يعمل في معمل لصناعة البلاستيك ويساعدني في تأمين احتياجات العائلة، كثيراً ما يخبرني عن رغبته في التسجيل في إحدى الجامعات التركية ولكنه يعدل عن فكرته وحلمه حاملاً فوق عاتقه همومنا قبل مسؤولياتنا لأنه لا يستطيع العمل والدراسة في آن واحد في تركيا وساعات العمل فيها طوال.”
وبتنهيدة من فوّهة بركان صدره المشتعل قهرا يختم حديثه قائلاً “آه كم أتمنّى أن تنتهي هذه المحن ويسجل أحمد في الجامعة ويحقق حلمه وكم أحلم ببزوغ فجر يحمل في طيّاته خبراً عن غسان يعيد للعائلة بهجة الحياة وروح التفاؤل”.
وفي نفس المدينة التي يدفن فيها أحمد أحلامه يحكي أبو رائد الشاميّ عن أولاده رائد وحسن اللذان غيبهما ظلم النظام خلف قضبان لا تعرف الرحمة منذ سبع سنوات ولم تبق إلا الذكريات وبعض من صورهم يحتضنها في أوقات المحن فتخفف عنه وطأة الحياة.
“أعمل في محل لبيع الخضار منذ أن جئت إلى هذه المدينة وأحمد اللّه الذي هيأ لي هذا العمل ولو كان الأجر قليلاً فليس لدي معيل ورائد وحسن لا نعلم أهما حيان أم ميتان”.
بلغ عدد المعتقلين السوريين في سجون النظام السوري قرابة 300 ألف معتقل وكل معتقل منهم له حكاية تركن خلف القضبان، تاركاً وراءه أهله، يقتلهم عذاب الحرمان وقهر الانتظار.
محمد المعري
المركز الصحفي السوري