كان متوقعا لكثيرين من متابعي المشهد السياسي اللبناني وتعقيدات تشكيل الحكومة، أن يعتذر رئيس الوزراء المكلف مصطفى أديب، عن عدم استكمال عملية تشكيلها.
فبعد عدّة زيارات قام بها للرئيس ميشال عون، في القصر الرئاسي، لم يصل أديب إلى حلٍ يرضي جميع الأطراف، وخاصة الثنائي الشيعي.
وواجه تشكيل الحكومة عقبات، أبرزها التمسك بحقيبة وزارة المالية وتسمية الوزراء الشيعة من طرف الثنائي الشيعي، وهما حركة “أمل”، بزعامة رئيس مجلس النواب نبيه بري، وجماعة “حزب الله”، حليفة النظام السوري وإيران، التي تتبادل العداء مع أنظمة عربية وإسرائيل حليفة الولايات المتحدة.
وأعلن أديب، السبت، اعتذاره عن عدم استكمال مهمة تشكيل الحكومة، قائلا إن “التوافق الذي قُبلت به لتشكيل الحكومة لم يعد موجودا”.
وقَبل عون اعتذار أديب، الذي كان قد كلفه في 31 أغسطس/ آب الماضي، بتشكيل حكومة تخلف حكومة تصريف الأعمال الراهنة، برئاسة حسان دياب، التي استقالت في العاشر من الشهر نفسه بعد ستة أيام من انفجار كارثي في مرفأ العاصمة بيروت.
وتزامن التكليف مع زيارة تفقدية لبيروت، أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما أطلق اتهامات له من أطراف لبنانية بالتدخل في شؤون بلادهم، ومنها عملية تشكيل الحكومة، في محاولة للحفاظ على نفوذ لباريس في لبنان، البلد الذي احتلته بين عامي 1920 و1943.
وأطلق ماكرون مبادرة فرنسية بلهجة تهديد وإعطاء تعليمات إلى اللبنانيين، تشمل تشكيل حكومة جديدة، وإصلاح البنك المركزي والنظام المصرفي، بحلول نهاية أكتوبر/ تشرين الأول.
واعتبر محلل سياسي أنه باعتذار أديب تم “تعطيل” المبادرة الفرنسية، ورأى آخر أن باريس ستحاول إنقاذها، فيما توافق محللون على أن ما ينتظر لبنان في القريب العاجل ليس أقل سوءا مما هو عليه الآن.
ويعاني لبنان، منذ شهور أزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975 – 1990) واستقطابا سياسيا حادا، في مشهد تتصارع فيه مصالح دول إقليمية وغربية.
رهان إيراني
ويحذر بشارة خير الله، محلل سياسي، من أن “سيناريوهات كارثية” تنتظر لبنان بعد استقالة أديب.
ويقول خيرالله: “استقال أديب لأنه لم يستطع أن يقنع الثنائي الشيعي أن الرئيس المكلّف هو من يشكّل الحكومة”.
ويتابع: “الثنائي الشيعي يعتقد نفسه أخطأ في إسقاط حكومة دياب، ويريد له (دياب) أن يصرّف الأعمال إلى ما بعد الانتخابات (الرئاسية) الأمريكية (3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل)، لأنه يراهن على تغيير في الرئاسية أي سقوط (الرئيس الجمهوري دونالد) ترامب (أمام الديمقراطي جو بايدن)”.
ويردف خير الله: “كأنّ هذا الفريق لا يعلم أن ترامب سيربح، وأن أيا كان رئيس أمريكا فإن البرامج السياسية هي نفسها ولن تتغير”.
ويرى أن “هذا رهان إيراني، وهناك من يريد أن يغلّب المصلحة الإيرانية على الوطنية (اللبنانية)؛ خاصة بعدما سهّل (رئيس الحكومة السابق) سعد الحريري قدر الإمكان وأعطى الثنائي حقيبة المال خلافا للدستور”.
وأعلن زعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، الثلاثاء، موافقته على أن يقوم أديب بتسمية شخصية شيعية مستقلة لحقيبة المالية.
من ناحية الدستور يُفترض أن يُجرى عون استشارات نيابية ملزمة جديدة لتكليف شخصية جديدة بتشكيل حكومة.
لكن خير الله استبعد تكليف شخصية جديدة بتأليف الحكومة، محذرا بالتالي من أن “لبنان متجّه إلى مزيد من التأزّم والتدهور الاقتصادي وهبوط للعملة الوطنية (الليرة) أمام الدولار الأمريكي، وكذلك مزيد من العقوبات الدولية والعزل الدولي”.
وبتهمة الفساد ودعم “حزب الله”، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية، في 8 سبتمبر/ أيلول الجاري، أنها أدرجت على “القائمة السوداء” كلا من وزير الأشغال اللبناني السابق، يوسف فنيانوس، ووزير المالية السابق، علي حسن خليل، المحسوب على بري.
تفاقم للانهيارات
من جهته، يعتبر الكاتب والمحلّل السياسي نبيل بومنصف، أن ما ينتظر لبنان هو ما أراده له الفريق الذي عطّل مهمة أديب وعطّل المبادرة الفرنسية.
ويردف بومنصف: “نُفّذ في لبنان أمر عمليات إقليمي بالانقلاب على المبادرة الفرنسية وإجبار أديب على الاعتذار”.
ويحذر من أن “لبنان مقبل على مرحلة تفاقم للانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية”.
ويرى أن هذه الحكومة، برئاسة أديب، كان يمكن أن توفر فرصة إنقاذ وتنفس للبنان كي يتمكن من مواجهة تحديات بالغة الخطورة.
ويستدرك: “الثنائي الشيعي أجهض هذه الفرصة، لارتباطاته الواضحة والموثقة بإيران وبحسابات أمريكية”.
ويستطرد: “قد يكون فريق 8 آذار (يضم الثنائي الشيعي) باتجاه أن يعود إلى تفعيل حكومة دياب إلى حين الانتخابات الأمريكية، لأنهم بارتباطهم الإقليمي يخدمون إيران بترك لبنان بفراغ إلى حين معرفة من سيأتي إلى البيت الأبيض، فإيران تراهن على التفاوض”.
وبشأن احتمال تكليف شخصية جديدة بتأليف حكومة، يقول بومنصف: “اعتدنا مع الرئيس عون إطالة تحديد موعد الاستشارات (..) وهذه المرة سيأخذ وقته أكثر لأنه سيتحجج بأنه لا توجد شخصية مُتبلور عليها توافق معيّن”.
سيطرة إيرانية
بدوره يقول الكاتب والمحلل السياسي علي حمادة، إن “الإيرانيين، وبموقف حلفائهم هنا على الأرض (الثنائي الشيعي) من قضية وزارة المال وتعيين الوزراء الشيعة وتحوير المبادرة الفرنسية، استطاعوا أن يسيطروا على الواقع الحكومي مرة جديدة”.
ويضيف أن المشكلة الآن على صعيدين داخلي وخارجي.
داخليا، فإن الأمور أكثر تعقيدا من قبل، وبالتالي “إمكانية تكليف رئيس جديد موجودة، لكنها ستكون أكثر صعوبة خاصة لناحية انتقاء شخص ضمن المعايير المطلوبة في مرحلة إنقاذ لبنان اقتصاديا”.
أما خارجيا، فـ”ربما سنذهب إلى تأجيل الاستشارات الملزمة لاختيار رئيس حكومة جديد بانتظار أن يأتي الضوء الأخضر الإقليمي، ربما بعد الانتخابات الأمريكية”، بحسب حمادة.
ويرى أن “الموقف الفرنسي سيعتبر أن المبادرة مستمرة، وأن جولة انتهت وبدأت أخرى.. الفرنسيون سيحاولون إنقاذ المبادرة عبر خطة باء ستُحضّر أو محضّرة سلفا”.
انهيار حتمي
أما المحلل الاستراتيجي سامي نادر، فيذهب إلى أن لبنان أمام “انهيار حتمي، ولا يوجد خيارات بديلة”.
ويعتبر أن لبنان فرّط بالفرصة الأخيرة للإنقاذ، وبالتالي هو “أمام المجهول.. لا يوجد سوى مسلكين للوضع الحكومي، الأوّل هو تعويم حكومة تصريف الأعمال، وهي حكومة مكانك راوح لا تستطيع الإنقاذ، والثاني هو تكليف شخص مثل دياب”.
ورفض “تيار المستقبل” وقوى سياسية عديدة المشاركة في حكومة دياب، التي تواجه اتهامات إقليمية وغربية تنفيها بالخضوع لسيطرة “حزب الله”.
ويتابع نادر: “أديب، وبكل الدعم الدولي لم يستطع تشكيل حكومة وفق المعايير المطلوبة لاستعادة الثقة الدولية، فالأمر صعب أن يحصل مع شخص آخر”.
ويحذر من تداعيات اعتذار أديب على الوضع الاقتصادي، بقوله: “سيحدث هبوط لسعر صرف الليرة مقابل الدولار”.
وبعد اعتذار أديب، سجل سعر صرف الليرة ما يزيد عن ثمانية آلاف للدولار الواحد في السوق غير الرسمية، مقابل 1507.5 ليرة لدى مصرف لبنان.
أقل خطورة
بينما يرى فيصل عبد الساتر، وهو كاتب ومحلل سياسي، أن “السيناريوهات المقبلة أقل خطورة من السابق.. والاستشارات النيابية الملزمة لتكليف شخصية جديدة بتأليف الحكومة لن تكون بعيدة”.
ويضيف: “قبل الاستشارات سيكون هناك اتصالات فرنسية مع الأطراف اللبنانية للوصول إلى تسمية رئيس يمكن أن يكون موضع ثقة لدى الجميع، وأن تكون الحكومة الجديدة مهمة، وهذا يتطلب من القوى السياسية مرونة في التعاطي مع موضوع الوزارات والأسماء”.
وعن إمكانية وجود عراقيل بوجه الحكومة المقبلة، كعقدة تمسّك الثنائي الشيعي بوزارة المال، يرى عبد الساتر أن “الثنائي الشيعي ربما لم يكن ليتمسك بوزارة المالية لو لم تكن العقوبات الأمريكية قد فرضت مثل هذا الأمر، وبعدها ما قام به تجمع رؤساء الحكومات السابقين”.
وأعلن رؤساء الحكومات السابقون، فؤاد السنيورة، وتمام سلام، ونجيب ميقاتي، الأسبوع الماضي، رفضهم أن تكون حقيبة وزارية بعينها “حكرا أو حقا حصريا” لفصيل أو فئة سياسية بعينها.
ويقول عبد الساتر إنه “كان هناك كسر إيرادات من الأطراف الداخلية اللبنانية.. ترف الوقت لم يعد لصالح أحد، وعلى القوى السياسية العودة لشيء من الواقعية والذهاب سريعا للجم المزيد من التدهور الذي يمكن أن يؤثر على الاستقرار في البلد”.
ويستبعد أن تكون حكومة لبنان المقبلة رهينة لحين الانتخابات الأمريكية، معتبرا أن كل ما يتردد في هذا السياق “يأتي في إطار الحملات المتواصلة على الثنائي، وحزب الله خاصة”.
ويرى أن من يعتقد أن “إيران تساوم على حساب بعض الدول لتحقيق نقاط على مستوى ملف النووي الإيراني وعلاقتها بأمريكا، فهذا نوع من الوهم”.
ويختم حديثه متسائلا باستنكار: “ما الذي سيقدمه لبنان كورقة أساسية في التفاوض بين إيران وأمريكا؟”.
نقلا عن القدس العربي