سجّل إعلان رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو استقالته من منصبه الحكومي (إضافة إلى منصبه كرئيس لحزب «العدالة والتنمية»)، الأسبوع الماضي، بداية معركة جديدة لرجب طيب اردوغان الطامح لتعديل الدستور ليصبح منصب رئيس الجمهورية، الذي فاز به في شهر آب/أغسطس 2014، هو المركز التنفيذي الأول في البلاد بدلاً عن رئيس الوزراء.
ردّ الفعل الأكبر على خطة اردوغان الرئاسية جاء الأربعاء الماضي في تصريحات لرئيس أكبر أحزاب المعارضة «الشعب الجمهوري»، كمال قليجدار أوغلو، الذي قال إنه بتغيير الدستور والانتقال للنظام الرئاسي «سيتكلم شخص وتسكت تركيا»، مضيفاً هذه الجملة الخطيرة: «هكذا نظام رئاسي لا يمكن لكم تحقيقه من دون إراقة دماء».
والحقيقة أن سلطات اردوغان ليست بحاجة لجبهة جديدة تريق مزيدا من الدماء والتي يمكن أن يضيفها إرث النزاع التاريخي الطويل لتيّار الإسلام السياسي مع أنصار أتاتورك الممثلين في حزب «الشعب الجمهوري»، فهناك الكثير من النزاعات المحتدمة والتي لا أفق قريباً لحلّها.
على رأس هذه النزاعات الدمويّة نجد القتال المحتدم مع حزب العمال الكردستاني التركيّ والذي يخلّف كل يوم الكثير من الضحايا. وإحدى إشكاليات هذا النزاع أن القضية القومية الكردية ارتبطت ضمن تاريخ تركيا الحديث بمطامع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى والتي كان أحد مقترحاتهم في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 إعطاء الأراضي العثمانية التي كانت ضمن حصة روسيا إلى أرمينيا والأكراد لإقامة دولتين مستقلتين عليها، الأمر الذي تم تثبيته في اتفاقية «سيفر» عام 1920، وجاء النزاع السوريّ والتدخّلات العالمية فيه لتعيد إلى الذاكرة التركية تلك المرحلة الصعبة في تاريخها.
مثل إردوغان، كان مصطفى كمال، في تلك الفترة يصارع على أكثر من جبهة: الثورات الكردية من جهة، ومعركة الموصل التي كانت بريطانيا تعمل على ضمها للعراق، وجدير بالتفكّر أن أتاتورك أرسل حينها وحدة عسكرية صغيرة إلى شمال الموصل آنذاك، ما يذكّر بما فعله اردوغان مؤخرا، وكانت ردود الفعل متشابهة في الحدثين!
إضافة إلى مواجهة حزب العمال فإن معركة اردوغان مستمرة أيضاً مع تنظيم «الدولة الإسلامية» وهناك مؤشرات عديدة على بدء حصول عملية برّية تركيّة لإزاحة التنظيم من المناطق السورية المحاذية لتركيا، وهو ما أثار قلق النظام السوري وحليفه الروسيّ الذي حذّر أوروبا من دعم «المنطقة الآمنة» التركيّة داخل سوريا، فيما يستمرّ تنظيم «الدولة» بقصف مناطق تركيّة عديدة بالقذائف، وبناء التحصينات ونشر الألغام، وهو ما يعني أن المعركة البرّية التركيّة قد تكون باهظة الثمن.
العملية الخارجية، إذا حصلت، هي استكمال للمعركة الداخلية، فتنظيما «حزب العمال» و»الدولة» عابران للحدود، ولم يمرّ وقت طويل على تنسيق النظام السوريّ مع الأوّل (الذي تمتدّ أطروحته القوميّة لتضم الجمهور الكردي في العراق وسوريا) ضد المعارضة السورية وتركيّا، حتى كان الثاني قد عبر الحدود العراقية بدوره، وشكّل هو أيضاً، خطراً كبيراً على المعارضة السورية وعلى تركيّا.
بإزاحة تنظيم «الدولة» من المنطقة التي يسيطر عليها على الحدود التركيّة ـ السوريّة، يكون اردوغان قد تخلّص إذن، وبنقلة واحدة، من خطر التنظيم ومنع سيطرة «وحدات الحماية الكردية» المدعومة أمريكياً وروسيّا على هذه الحدود بحيث يسقط مشروع إنشاء وحدة جغرافية ـ سياسية كردية ممتدة من القامشلي والحسكة إلى عفرين قرب حلب وينحسر خطر تنظيم «الدولة» بشكل كبير.
غير أن هذه الخطوة التي كانت تركيّا تضغط لإنجازها، لأسباب أخرى، منذ بدء النزاع السوريّ (وقبل صعود نفوذ «وحدات الحماية» وتنظيم «الدولة») ما تزال ممتنعة دوليّاً، لأن إدارة أوباما لا تبدو ميّالة لتغيير استراتيجيتها السورية – التركيّة في الشهور الأخيرة للرئيس الأمريكي في البيت الأبيض، وهو ما يعني أن على الرئيس التركي البارع في فتح الجبهات أن ينتظر… أو يضغط لتغيير أسس اللعبة في هذه اللحظات الحرجة بالذات.
القدس العربي