قبل زيارة دي ميستورا الأخيرة إلى دمشق بيوم بدأ نظام الأسد عملية عسكرية كبيرة في المنطقة الجنوبية، تميّزت باعتراف وسائل إعلام النظام لأول مرّة بمشاركة ضباط إيرانيين وعناصر من ميليشيا حزب الله فيها، كما زار هذه الجبهة قاسم سليماني، حيث جرى إعدام إثني عشر ضابطاً من ضباط النظام بتهمة الخيانة.
وبعد غيابه عن ساحة الأحداث لما يقارب من ثلاثة أشهر ظهر دي ميستورا في دمشق؛ مشدّداً على أنّ بشار الأسد جزء من حلّ الأزمة السورية، في وقت كانت الصواريخ البالستية تفتكّ بدوما وأطفالها، التي لا تبعد سوى عدة كيلومترات عن مكان إقامته في دمشق، لكنّه فضّل زيارة السفارة الإيرانية والمشاركة في الاحتفالات بذكرى الثورة الإيرانية على زيارتها، ثمّ كرّر الحديث نفسه عن خطته حول تجميد القتال في حلب واقترح لها ستّة أسابيع كمدة مبدئية.
في الوقت نفسه الذي كان تجري فيه مباحثات دي ميستورا في دمشق، كان النظام يحشد قواته في حلب، ثمّ أكّد على موافقته على مساعي المبعوث الأممي بعد مغادرته مباشرة؛ فشنّ حملة عسكرية محاولاً إحكام الحصار على حلب، أحرزت تقدّماً وارتكبت في قريتي رتيان وحردتين مجزرتين قتل فيهما 68 مدنياً معظمهم من النساء والأطفال؛ قتلوا في بيوتهم بإطلاق الرصاص عليهم عن قرب، فيما ذبح بعضهم، لم تحرّك تلك المجزرتان شيئا في العالم، فلم تتمّ إدانتهما من قبل أي جهة غربية أو أممية، كما ظهرت كخبر ثانوي في نشرات الأخبار في القنوات العربية، ثمّ سرعان ما اندحرت قوات النظام وأعاد الثوار تحرير ما احتلّته وقتلوا وأسروا الكثير من عناصر الحملة؛ كان معظم الأسرى من أبناء مدينة حلب ممن تمّ إلقاء القبض عليهم على حواجز النظام في مناطق سيطرته في حلب قبل أن يتمّ الزج بهم في المقدمة، لكنهم ألقوا أسلحتهم واستسلموا.
مما جرى مؤخّراً في معركة حلب، وما يجري في الجبهة الجنوبية يتّضح اعتماد النظام في عملياته العسكرية؛ على الزجّ بعناصر مما يسمى بقوات الدفاع الوطني والأفراد غير المدربين من المجندين الإلزاميين؛ ممن يلقى القبض عليهم على حواجزه في أماكن سيطرته في المقدمة، خلال عمليات الاقتحام، فتتكبّد هذه الفئات معظم الخسائر في القتلى والجرحى، كما يقع الكثير منهم في الأسر، بسبب غياب العقيدة القتالية لديهم، وقد زُجّ بهم رغماً عنهم في المعارك، كما توكل لهم مهام الحراسة في المواقع الدفاعية المتقدمة على الجبهات التي تتعرض لاشتباكات دائمة، فيما يعتمد في قيادة وتنفيذ عملياته التكتيكية التي تهدف للسيطرة على الأرض؛ على عناصر مدربه من ميليشيا حزب الله ولواء أبو الفضل العباس والحرس الثوري الإيراني وعناصر أجنبية أخرى كالأفغان، حيث تقوم هذه الفصائل بتنفيذ تلك العمليات التكتيكية خلال المعارك التي يخطط لها ويديرها ضباط إيرانيون وقياديون من ميليشيا حزب الله.
مع اقتراب الأزمة سورية من دخول عامها الخامس، أصبح جيش النظام منهكاً منهاراً، وأصبح يعتمد حتى على تجنيد فتيات من طائفته بعد عدم كفاية ما سمّاه جيش الدفاع الوطني، وما الاعتراف العلني الأخير بقيادة الإيرانيين لعمليات الجنوب إلا دليل واضح على أن العمليات الهجومية أصبحت تنفّذ بشكل شبه كامل بالاعتماد على عناصر غير سورية، كما باتت تتشكّل قوته الضاربة منها فقط.
بعد فشل عملية حصار حلب واستمرار خسائر النظام فيها، ستعود قوات النظام في هذه الجبهة إلى حالة الانكفاء والتقوقع في مراكزها مع احتمال خسارة بعض تلك المواقع بين فترة وأخرى، كما هي عليه الحال في باقي الجبهات، باستثناء الجبهة الجنوبية التي تتركّز العمليات فيها في المنطقة المحاذية للأراضي اللبنانية، حيث أماكن ميليشيا حزب الله، وهذا ما يرجّح استغراق هذه العملية لمدة طويلة، كما يروّج في الإعلام على أنّها خطة إيرانية لبسط سيطرتها على مواقع متاخمة لإسرائيل وتسليمها لميليشيا حزب الله، لكن لا توجد حدود لإسرائيل مع جبهتي القلمون والقصير، اللتين استمات حزب الله لاحتلالهما، كما توجد عناصر الحزب في منطقة الزبداني المتاخمة للحدود اللبنانية وريف دمشق الجنوبي، إضافة لمواقع أخرى؛ يسعى حزب الله لبسط سيطرته على كافة المناطق المحاذية للحدود اللبنانية ليحافظ على اتصاله مع مناطق سيطرة النظام في حمص ودمشق وريفها الغربي والجنوبي، وصولاً إلى الريف الغربي لكلّ من درعا والقنيطرة؛ يخفي هذا محاولة لضمان السيطرة على مناطق معينة في سورية، والاستماته في الدفاع عنها حتى النهاية. فالنظام مدعوماً بالمليشيات الطائفية غير قادر عملياً على بسط سيطرته على كامل التراب السوري، لذا يتم اختيار بقع معينة للحفاظ عليها على حساب أخرى، على أن تبقى كافة المناطق الخارجة عن سيطرته تعيش تحت قصف يومي، وهذه سياسة النظام منذ تحرير أول قرية من براثنه، أما الحديث عن فتح حزب الله لجبهة جديدة مع الجولان، فما هو إلا ضرب على وتر لم يعد يطرب أحداً؛ فإسرائيل كانت أمام فرصة ذهبية لضرب حزب الله بعد عمليته الأخيرة – التي اختار مزارع شبعا لتكون مسرحاً لها للخفيف من ردة الفعل الإسرائيلية – في خضم انشغاله في سورية والعراق وحتى اليمن، لكنّها فضّلت عدم التصعيد معه، فمن أين لها بحارس لحدودها الشمالية مثله؛ فلم يطلق رصاصه صوبها منذ حرب 2006 إلا في العملية الأخيرة التي تبعها تصريح غريب من الحزب أبدى فيه رغبته بعدم التصعيد معها؛ إضافة لتأكيد قائده، في إطلالاته شبه الأسبوعية، على تفرغه للعمل في سورية والعراق؛ كما أنّ وجود قوات لحزب الله وقوات إيرانية في تلك المنطقة ما كان ليتمّ إلا بموافقة إسرائيلية، أو على الأقل بغض الطرف الإسرائيلي عنهاً.
تمّ توقيع اتفاقية أمريكية تركية لتدريب وتسليح المعارضة السورية “المعتدلة” بهدف محاربة “داعش” والنظام، حسب تصريحات وزير الخارجية التركي. سيجري بموجبها تدريب خمسة آلاف مقاتل سنوياً على مدى ثلاث سنوات، في خطوة تهدف لتأسيس نواة لجيش وطني جديد يحلّ مكان جيش النظام المتهالك، أتت هذه الخطوة متأخرة حاملة دلالات على عدم وجود جدية أمريكية بحلّ الأزمة السورية سياسياً على الأقل، في الوقت الحالي. ستسلّح هذه القوات بسيارات دفع رباعي مزودة برشاشات وهذه أسلحة لا تخلق تفوّقا على أسلحة النظام، ما يعني بقاء الحرب سجالاً، هذا إن اشتركت هذه القوات في محاربة النظام؛ كلّ ذلك يؤكّد أن هذه الخطة ليست أكثر من محاولة لإثبات الوجود الأمريكي ولإرضاء الجانب التركي قليلاً، كما قد لا يُكتب لها النجاح مثل كلّ المبادرات منذ أربع سنوات وحتى الآن، لذلك لن ينتج عنها في أحسن الحالات سوى إضافة فصيل جديد على الساحة السورية المتخمة أصلاً بالفصائل؛ لتستمر الأزمة السورية في حالة المراوحة في المكان، وهذا هو عنوان سياسة أوباما حيالها.
القدس العربي – بشار عمر الجوباسي