نشرت مجلة «نيويوركر» الأمريكية في عددها الأخير بحثاً لصحافي تابع عملية معقدة وخطرة جداً للحصول على الملفّات الأكثر خطورة وسرّية التي تثبت ارتباط عمليات التعذيب والقتل الممنهج في سوريا بأعلى مستويات القيادة في نظام بشار الأسد.
يشرح البحث، بالتفصيل، تاريخ عملية تشكيل لجنة العدالة والمساءلة الدولية، وهي جهة تحقيق مستقلة تأسست عام 2012 كرد فعل على الأحداث في سوريا، قامت، خلال السنوات الأربع الماضية بتهريب أكثر من ستمئة ألف وثيقة حكومية خارج سوريا، وقد تعرّض بعض الذين شاركوا في كشف وتهريب هذه الوثائق للقتل او الاعتقال.
حصيلة عمل اللجنة توّج أخيراً بمذكرة قانونية من 400 صفحة تربط التعذيب والقتل الممنهج لعشرات آلاف السوريين بسياسة موثقة كتابياً وافق عليها الرئيس السوري، ويتم تنسيقها بين أجهزته الاستخبارية، وتقدّم، بحسب المجلة، «سجلاً للتعذيب المدعوم من الدولة يكاد لا يصدق في مداه وقسوته».
سرد التقرير التفصيليّ يقدّم عمليّا الأساس النظريّ الذي بنيت عليه المأساة السورية، وهو بالتحديد، موقف الأسد الذي تجسد بخطابه الأول عند انطلاق الأحداث الأولى للاحتجاج والتي اعتبرها «مؤامرة قوى خارجية» مؤكدا أن لا وجود لتسوية أو طريق وسطيّ في التعامل معها.
هذه الرؤية كانت من القسوة والانفصال عن الواقع بحيث فاجأت حتى ضبّاط الأسد الأمنيين، كما يقدّم التقرير مثالاً على ذلك في حالة اللواء جامع جامع، الذين اضطرّوا، بعد أن حاولوا تقديم تصوّر واقعيّ للأحداث كما يرونها، إلى الالتزام بالنظرية «الرئاسية»، والانتقال من المعالجة الأمنية الممكنة للاحتجاجات إلى قمعها بطرق لا يتخيّلها العقل.
بل إن التقرير يكشف أن بعض الضباط والجلادين كانوا مضطرّين لالتزام الحدّ الأقصى من العنف والوحشية لأن القيادة كانت تتوقع منهم الحصول على نتائج وكان هناك عواقب على عدم أدائهم أعمالهم بالوحشية المطلوبة، وكان مطلوباً من رؤساء الفروع الأمنية «موافاة مكتب الأمن القوميّ دورياً بأسماء العناصر المتخاذلين»، الذي انتهى الأمر ببعضهم في الزنازين مع ضحاياهم.
يلفت النظر في التقرير كيف كان الجلادون يزيدون في بشاعة البطش بالعلاقة مع انتماء بعض المعتقلين إلى مناطق ثائرة بعينها، فأحد الشهود يروي كيف وصل الدور في طابور البصم على تقارير الاعتراف لفتى في السابعة عشرة من العمر وحين علم الحراس أنه من داريّا (البلدة المجوّعة حتى الموت حالياً) جلب أحدهم آلة صهر ناريّة وحرق فم الفتى ثم حرق رقبته وظهره بالكامل، لدرجة أن الفتى بدأ يذوب، ولم يلبث أن توفّي متأثرا بعذاباته التي استمرّت يومين.
أحد أكثر فصول التقرير إرعاباً هو الذي يحكي عما يسمى «مستشفى 601» وكيف كان «الممرضون» و«الممرضات» يتبارون في تعذيب السجناء بدل تطبيبهم، ويروي شاهد كيف تم ضربه طوال الطريق إلى دورة المياه ليجد هناك كومة جثث محطمة وزرقاء وبعضها ضامرة وبدون عيون، فخرج الشاهد وهو يرجف رعباً.
وفي مشهد لا يمكن أن يحصل إلا في أفلام الرعب يدخل جنديان إلى عنبر المرضى ويسألان من يريد دواء وحين رفع أحدهم يده متحمسا استلّ الجندي سلاحاً حاداً وبدأ بضرب قاعدة جمجمته فاصلا عموده الفقري عن رأسه ثم أمر مريضا آخر بإلقاء الجثة في الحمام. الجندي، كان يطلق على نفسه، تفكّهاً، اسم «عزرائيل».
آخر مستجدات الوضع السوري كانت بدء مفاوضات جنيف للتسوية السياسية، وأيضاً إجراء النظام لما يسمى انتخابات مجلس الشعب في مناطق سيطرته، بالتزامن مع تصريحات متغطرسة للقيادة السورية تقول إن تشكيل سلطة انتقالية «لن يحدث أبداً»، وإن الأسد سيستمر في السلطة طوعاً أو كرهاً، وأخرى لروسيا تبرّر كل ذلك، وهجوم جديد للنظام وحلفائه على حلب.
في مقابل كل ذلك، يتفهّم المتابع طرح المعارضة قبول مشاركتها حكومة لا تضمّ الأسد، بالنظر إلى الدور المركزيّ الذي لعبه الأخير في دفع سوريا إلى المذبحة الشاملة التي تشهدها، ووجود المذكرة القانونية التي وضعتها لجنة المساءلة والعدالة ستكون، لو تم تفعيلها والتركيز عليها، ليس من قبل المعارضة فحسب، بل كذلك من الجهات الداعمة للشعب السوريّ، الطريق القانونيّ الأمثل لملاحقة المسؤول الأول عن التراجيديا السورية، بشار الأسد.
رأي القدس